أبعد من البقاء.. شهادات من نشطاء ومعارضين ما زالوا في دمشق (2)


محمد

أليس الشاميأليس الشامي

كاتبة سورية (الاسم مستعار)

بقلم أليس الشامي.

قد يصعب على كثير من السوريين المعارضين الذين تركوا البلاد مضطرين أو يائسين تخيّل أو تصديق حقيقة أنه ما يزال هناك بضع نشطاء يعيشون في دمشق. بعضهم ترك العمل السياسي والثوري والمدني، وبعضهم ما يزال يحاول أن يمارس دوراً ما. بعضهم وجد منفذاً للعمل العلني ضمن مؤسسة غير محظورة أو ملاحقة، وآخرون ما زالوا يعملون بشكل سري رغم كل المخاطر. لكنهم جميعاً مدركون، أنّهم في مكان مختلف تماماً عن ذلك الذي وقفوا فيه منذ سبع سنوات، وربما كان هذا فرقاً أساسياً بينهم وبين النشطاء الذين تركوا البلاد. هنا في هذا الملف تنشر حكاية ما انحكت، شهادات وحكايات هؤلاء، لتكون صدى على ما يحدث داخل البلاد من تحولات. ميساء (فنانة تشكيلية ورسامة كاريكاتير، 31 عاماً)  عندما أقرأ ما يكتبه المعارضون المغتربون على مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات، أشعر أنهم عالقون في لحظة خروجهم، يحتفظون بصورة ثابتة عن الوضع السوري، وعن الحياة داخل المدينة، وعن الثورة. لربما كان مؤلماً جداً أن يعترفوا كم تغيّرت ملامح البلد، وكم تغيّرت موازين القوى. لقد تشظّت ساحة النضال إلى آلاف القطع الصغيرة، وأكلت العزلة القواسم المشتركة بين كثيرين، وخلقت التفاصيل اليومية المعاشة قواسم مع آخرين لم يكن يجمع بينهم أي شيء في بداية الثورة، حتى إنهم كانوا أضداداً. لكن رشقات الرصاص والقذائف العشوائية وحدت بينهم إلى حد ما، إلى أن ينعطف النقاش إلى من يضرب من، وتستخدم عبارات مثل “هذه هي حريتهم عليها اللعنة”، و”على الجيش أن يحرق هذه المنطقة أو تلك”، هنا تدرك تماماً كمعارض كم أصبح من الصعب عليك أن تدلي برأيك. لا أحد يريد أن يستمع إليك، ولا أحد مستعد للتساهل معك ومع نظريتك عما يحدث. إن كنت ما تزال معارضاً فماذا تفعل هنا؟ اذهب إلى الخارج، اذهب إلى مناطق المعارضة المسلحة، عش مع داعش والنصرة، فلا مكان لك بيننا. المعارضون في دمشق لا أحد يعترف بوجودهم، وإذا كان لبعضهم ماض معروف، فهم حتماً ما يزالون في دمشق لأنهم اعترفوا بخطيئتهم وتابوا عن كفرهم. أنا لا أزال في دمشق، ومهما حصل ستظل هذه المدينة منطلقي ومآلي. إنها مكاني الطبيعي، وموطن ذكرياتي بغض النظر عن الأنظمة والحكام. لا يمكن لشيء أن يمحو هذه الذكريات، وستتحول أيامنا هذه إلى ذكريات تضاف إلى مخزوننا عن هذه المدينة الغريبة المركبة القاسية الجميلة القبيحة. لا شيء يشبه دمشق في الكون بالنسبة لي. وأشعر بأنني محظوظة لأنني لا أزال أجد مكاناً لي فيها. نحن، معارضو الداخل الذين لم نغادر، نعيش الهزيمة كل يوم، هزيمة الحلم. لا نستطيع أن نخدع أنفسنا لأنّ التفاصيل تطالعنا في كل الزوايا، في كل لحظة من حياتنا اليومية، عندما نمشي في الشارع، وعندما نسيّر معاملة، وعندما نذهب إلى العمل، وعندما نشتري أغراض البيت. وفي نفس الوقت، أعتقد أنّ خيارنا أن نعيش الهزيمة، هو انتصار بشكل أو بآخر، انتصار على الوهم. لا يمكننا أن نقوم بثورة مبنية على الوهم، وبعيدة عن الأرض. أختار أن أعيش الهزيمة المؤلمة على أن أعيش “الوهم الجميل”. محمود (مهندس وناشط في المجتمع المدني، 36 عاماً) “لا أعلم لماذا أو كيف نجوت من تجربة الاعتقال حتى الآن. لربما كان هذا أحد الأسباب الأساسية التي لم تجعلني أفكر بالمغادرة. ولا ألوم أحداً، ولست مخولاً أن أطلق أحكامي على أحد. أنا من القلائل المحظوظين الذين لم يدفعوا ثمناً باهظاً حتى الآن. لم أعتقل، لم ألاحق، لم أترك بيتي، لم يتم سوقي إلى التجنيد لأي طرف. حتى إنّ من يعرفون عن نشاطي الثوري السري قلائل جداً، لا أحد يعرف أنني معارض في مكان عملي. منذ اليوم الأول كنت هادئاً وحذراً فيما أقوله وأفعله. كنت شاهداً على مجموعات عمل اعتقلت بالكامل بسبب طيش أفرادها وثرثرتهم. أعرف أنّ الطريق طويل جداً. وعلى الرغم من جنون ما أقوله، ما يزال عندي أمل. منذ البداية لم أكن متأملاً بتغيير سريع، وعندما تسلّحت الثورة تشاجرت مع أغلب النشطاء الذين عملت معهم، لأنني سميتها ثورة مضادة سيطول معها الدرب ولن تقود إلى أي تغيير إيجابي. أحاول أن أكون موضوعياً، وبصراحة ليست لدي مشاعر كره شخصية تجاه النظام. لا يهمني إن بقي طيلة حياتي أو رحل، أنا أعلم أنه سيرحل يوماً ما، لكن كيف وعلى يد من وهل سيكون بديله أفضل حالاً؟ لا أعتقد أننا سنحب الأجوبة على هذه الأسئلة. أعتقد أن المشكلة التي وقعنا فيها كثائرين ضد نظام متمكن ضمن وضع سياسي بالغ التعقيد هو أنّنا كنّا نحاول أن نسمع فقط ما يعجبنا. لقد استسهلنا الأمور بعد أن شاهدنا تجربة مصر وتونس. والآن يعلم كثر منّا أنّ ثورات تونس ومصر لم تنته، وأنّ الثورات المضادة هي أفخاخ من السهل الوقوع فيها. أعتقد أنّ بقائي هنا يزيد من احتمالات كامنة لحصول تغيير إيجابي. هو يخلق نوعاً من التوازن، لا أعني بقائي شخصياً، بل أعني بقاء أشخاص مثلي، يفكرون بالتغيير. وفي حقيقة الأمر، هناك تغيير ما. قد يبدو الأمر بعيداً عن التصديق،  السوريون اليوم لن يعودوا إلى ما قبل عام 2011. صحيح أنّ رأي كثير من المعارضين يقول إنّ النظام سيعود أقوى من ذي قبل، وإنّ البطش بالمعارضة سيكون أكثر شراسة، لكنني أخالفهم الرأي. الموالون أيضاً أصبح لديهم الكثير ليقولوه. ومحاولاتهم الإصلاحية البسيطة تحت سقف النظام ستقود إلى الاصطدام معه عاجلاً أم آجلاً، لأنّه نظام غير قابل للإصلاح. وعندما يحصل ذلك أريد أن أكون موجوداً. ما يزال المستقبل مليئاً بالفرص والاحتمالات. أعيش ما يعيشه الشعب من ضغوط يومية، من غلاء معيشة وتضييق أمني وفوضى سلاح وتفجيرات وقذائف عشوائية ورصاص احتفالي وفساد. أعمل في مؤسسة مدنية محسوبة على النظام، وليس عندي مشكلة في ذلك. الشباب الذين يقومون بالمبادرات ضمن المؤسسة سوريون يحلمون بتغيير إيجابي ووجدوا في هذه المؤسسة فرصة. لا يهمني إن كانت المؤسسة تلمّع صورة النظام، وليس لدي أيّ شك في أنّ هذه التفاصيل ليس لها أي قيمة على المدى الطويل. المهم أنّ الشباب يجتمعون ويتحاورون ويفكرون ويعملون معاً، ويصطدمون بنفس التحديات والإحباطات ولديهم أحلام مشتركة تشبه أحلام ثوار عام 2011. ما من فائدة من المقاطعة هنا. شارِكْ وأحدث تغييراً من الداخل، هذا ما أحاول أن أقوم به حالياً. سمر (موظفة إغاثة في منظمة دولية، 28 عاماً) لا أزال أتذكر ذلك اليوم الذي نظفت فيه حساباتي على الفيسبوك من آثار المعارضة والثورة. كنت أضحك وأبكي في نفس الوقت. هل يعقل أنني قمت بكتابة كل هذه العبارات الثورية النارية؟ هل كنت بتلك الجرأة التي جعلتني أشتم بشار الأسد باسمي الصريح؟ من أنا الآن؟ من هذه التي تدخل إلى مبنى وظيفتها وهي ترسم على وجهها ابتسامة عريضة متملّقة لضابط التفتيش؟ من هذه التي لم تعد تتابع الأخبار إطلاقاً؟ من هذه التي تجلس مع زميلاتها في العمل اللواتي يتحدثن عن إنجازات الجيش السوري وهي تستمع وتعلّق بكلمة أو اثنتين مثل: حقاً؟ ومعقول! والله يخلصنا!… لقد أصبحت من جماعة (الله يخلصنا) ولو أنني لا أعني شيئاً مما أقوله هذه الأيام. كنت أمشي كلّ يوم في شوارع تظاهرت فيها سابقاً مع مئات الشبان والشابات. أين ذهبوا جميعاً؟ ماذا حلّ بهم؟ لم أعد أتحمّل ألم الذكرى، فصرت أغيّر طريقي. كم كنا سذجاً وحالمين. كان كل شيء جميلاً ومفعماً بالأمل، والآن أنا لا أنتمي إلى أيّ مكان أو أيّة مجموعة. لا البلد تشبهني ولا الخارج يشبهني، لا أندمج مع المعارضين ولا مع الموالين، لي صديقة أجتر معها اليأس والإحباط والألم، حتى بتنا نتعب من التحدّث إلى بعضنا. أعاني من الاكتئاب الحاد وأخضع للعلاج الدوائي والسلوكي، ولعلّ السبب الوحيد الذي لا يجعلني أترك البلد وأسافر، هو أنّني أخجل، أستحي، أشعر بالعار من فشلي. لا أتحدث عن فشل الثورة، أحياناً لا تكون اللحظة التاريخية مناسبة، أتحدث عن فشلي في فهم الأمور في حينها، عن فشلي في أن أكون جزءاً من عمل جماعي ناجح، عن أمّيّتي السياسية والتاريخية، عن مسؤوليتي الشخصية في المآسي التي جرت على البلاد والناس. كيف أترك كل شيء وأمضي؟ أنا أتحمل جزءاً من مسؤولية ما يحدث. رافية (صحفية وناشطة نسوية، 35 عاماً) سأعود قليلاً إلى تربيتي الدينية الصوفية، التي جعلتني أتواصل دائماً مع فكرة الموت، وما بعد الموت، وما الهدف من حياتي، وكيف أحاسب على عملي في الحياة الدنيا. تحوّلت بعدها إلى الإلحاد والعدمية، التي تنافي الفكرة التي نشأت عليها تماماً. كانت فترة عصيبة لم أعد أجد فيها مبرّراً لوجودي في الحياة، فما الهدف من أي شيء إذا كانت النتيجة هي العدم، ما الهدف من أن تكون إنساناً جيداً أو سيئاً إذا كانت المحصلة نفسها. ثم بدأت أبحث عن الأجوبة في داخلي حتى أستطيع الاستمرار. أنا موجودة لأستمتع بهذا الوجود، ولأجعل منه مكاناً أفضل لي ولغيري. هذا ما وصلت إليه، ومع ذلك ظلّت آثار تربيتي الصوفية تطالعني في تأملاتي حول الموت، وتصالحني مع النهاية، وتحرّرني من الخوف من الفناء والعدم. وعندما قامت الثورة، في لحظة غبية غير مناسبة، لم أتردّد في أن أكون جزءاً من هذا التغيير العميق الذي عصف بالمجتمع الذي أعيش فيه. لماذا أنا هنا؟ بالنسبة لإنسانة عدمية متصالحة مع فكرة الموت وتبحث عن معنى لوجودها وتجد هذا المعنى في أن تكون جزءاً من تغيير إيجابي، فسوريا هي المكان المناسب والمثالي! لربما تصغر دائرة التأثير أو تكبر حسب الظروف. أحاول أحياناً أنّ أنشر فكرة التغيير الإيجابي في الحارة التي أعيش فيها، كمبادرة لجمع القمامة، أو أن أقوم بالتبشير كناشطة نسوية لا دينية. أعتقد أنّ أفضل كلمة تصف ما أحاول القيام به هو التبشير. ولا أشك للحظة بأنّ ذلك يصنع فرقاً. أنا أخاف من الخوف، لأنه يكبلني، اعتقلت أربع مرات وأعمل على تجاوز خوفي من الاعتقال بالعلاج السلوكي، وعلى الرغم من أنّ نشاطي حالياً مختلف عن نشاطي في بداية الثورة، لكنني أعرف أنّ الأنظمة الحاكمة، ومنها النظام هنا، لا يناسبها أن تحرّر الأفراد والجماعات نفسها لتفكر بطريقة مختلفة، وأن تكون جزءاً من حراك أو نشاط أو حتى مبادرة فردية تشجع على التفكير الحر، يعني أن تصطدم مع الأنظمة. ما زلت أجد الكثير لأفعله هنا، ولو كنت في مكان آخر، لتمنيت أن أكون في هذه البقعة من العالم بالذات. لذلك أعتبر نفسي محظوظة.

(لوحة “تحت الضغط” للفنان محمد عمران. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك بتاريخ 3 آذار/ مارس 2013. والصورة تنشر بموجب سياسة الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها) 




المصدر