الإرهاب بين الأجندة الدولية وبين الترجمة التركية!



دخلت تركيا إلى إدلب، بعد تردد وصمت دولي إزاء ما يحدث في سورية عمومًا، دخلت وهي مُسلحة بما يشبه التفويض من مخرجات (أستانا 6)، ودخلت بداية بقوة بسيطة من الاستطلاع والاستخبارات العسكرية لتحديد أماكن الانتشار المحتملة، ثم بدأت تمركزها في عشر نقاط قابلة للتوسع والزيادة، ضمن ريف إدلب الشمالي وريف حلب الغربي، وأهمها قمة جبل سمعان التي تشرف على مناطق واسعة من إدلب وريف حلب، لكن بؤرة تسديد قواتها تستهدف عمليًا منطقة عفرين التي تتواجد فيها ميليشيات (قوات سورية الديمقراطية/ قسد).

تضمنت الاستراتيجية التركية التي أعلنها أردوغان، في السابع من تشرين أول/ أكتوبر، أن “أنقرة بصدد خطوات جديدة في محافظة إدلب، سيعقبها مبادرات لتركيا، بخصوص الوضع على الحدود مع سورية”، ثم أوضح وزير الدفاع التركي نور الدين جانيكلي، في العاشر من تشرين أول/ أكتوبر: أن القوات التركية “ستبقى في إدلب حتى يزول التهديد”.

اللافت للانتباه أن الدخول التركي تمّ بالتنسيق مع (هيئة تحرير الشام) التي تبسط سيطرتها على كامل المنطقة، إذ تم تسليم مواقع تمركز القوات التركية، بما يتناقض مع سياق التناقضات الأخيرة بين (هيئة تحرير الشام) وأنقرة، والتي وصلت إلى حد تشجيع بعض أجنحة (الهيئة) على الانشقاق، مقابل التصفيات التي طالت بعض الشرعيين الرافضين لقتال تركيا، فهل يكون التفاهم الجديد مع أنقرة استسلامَ (الهيئة) أم أنه مخرج وحيد لاستبعادها من دائرة الاستهداف التي حددتها استراتيجية الحرب على الإرهاب؟

بالعودة إلى تصريح وزير الدفاع التركي الذي يقول إن قواته “ستبقى في إدلب حتى يزول التهديد”؛ نجد أنفسنا بداهة أمام سؤال عن طبيعة التهديد الذي تعنيه تركيا، فإن كان المقصود بذلك هو تهديد القوى الإرهابية الذي يحظى بإجماع دولي؛ فإن (هيئة تحرير الشام) هي بالضبط المعني بهذه الصيغة، بخاصة أنها تكاد تطبق سيطرتها على كامل محافظة إدلب وملحقاتها، وبالتالي لا معنى لأي تفاهم معها يسمح لها بالبقاء، أو يعطيها نوعًا من الغطاء الشرعي.

إلا أن الترجمة التركية الخاصة لمصطلح التهديد الذي يُشكّل خطًا أحمرًا بالنسبة إليها، لا ينسجم مع التوافق الدولي، بل يقتصر على المشروع السياسي لتنظيم (P.Y.D) والميليشيات العسكرية التابعة له (قسد)، والذي بدأ يُعلن عن طموحه متجاوزًا “الإدارة الذاتية” التي أعلنت في كانون الثاني/ يناير من عام 2014 ضمن ثلاث “كانتونات”، هي “عين العرب أو كوباني، الجزيرة، عفرين”، باتجاه شريط متواصل يمتد فاصلًا الشمال السوري عن جنوب تركيا، وصولًا إلى البحر، بعد أن قدّمت هذه الميليشيات أوراق اعتمادها للمجتمع الدولي من خلال معركة تحرير عين العرب (كوباني) أولًا، ومن خلال نجاحها في تحرير الرقة من يد (داعش).

هذه النجاحات المتتالية لميليشيا (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي (P.Y.D) منحتها في البداية الكثير من الدعم والتسليح الروسي، كما تم افتتاح أول مكتب تمثيلي لها في موسكو. وتاليًا أصبحت الميليشيات الكردية وقوات (قسد) هي الحليف الوحيد الذي تثق به الإدارة الأميركية، مقابل كل الميليشيات والفصائل المسلحة التي ولجت معظمها إلى الخانة الإسلامية المتشددة، غير أن هذه الانتصارات بالذات رفعت منسوب الخطورة والتهديد في مقياس أنقرة التي تُدرك حجم الترابط الوثيق، بين (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي وبين (حزب العمال الكردستاني) في جنوب شرق تركيا، كما أنها تسمع أصداء مشروع الكرد السوريين في جبال قنديل التركية، حيث ينجدل الجذر الطائفي لجميل بايق مع الجذر الإثني، وهو ما يرفع ضغط الإحساس بخطورة الموضوع، إلى درجة اعتباره تهديدًا للأمن القومي لتركيا.

على ضوء هذه التفاصيل، وبشكل خاص بعد خسارة تركيا لمدينة حلب التي كانت تعتبرها خطًا أحمر، يبدو أنها لا تملك الآن خيارات كثيرة بشأن إدلب التي تسعى لتظهير دخولها في حدود مساندة (الجيش الحر) ضمن إدلب، مشيرة إلى تلك الفصائل التي شاركت سابقًا في معركة (درع الفرات) لاستعادة مدينة جرابلس السورية من يد (داعش)، في آب/ أغسطس 2016، غير أن معركة إدلب تمر الآن بالضرورة عبر (هيئة تحرير الشام)، بدل أن تستهدفها، وإذا كانت عملية (درع الفرات) نجحت في قطع الطريق على تمدد الميليشيات الكردية في مدينة جرابلس؛ فإن معركة إدلب تهدف إلى إخراج الميليشيات الكردية من مدينة عفرين، ضمن تفاهم يمنح شيئًا من الشرعية المفقودة لـ (هيئة تحرير الشام) حتى لو اضطرت إلى أن تجري على “الهيئة” بعض عمليات التجميل، أو التعديلات التي قد تطال اسمها وتركيبتها وبعض قياداتها، كمقدمة لإخراجها من خانة الإرهاب التي تحاصرها دوليًا، إن لم تضطره “الهيئة” إلى مواجهة ستدفع هي بالضرورة ثمنها.

تقابل هذه السيناريوهات التركية حتى الآن بصمت دولي ملتبس، دونه حذر إيراني، فطهران الشريك الضامن الثالث لاتفاقية “خفض التصعيد” في إدلب، تدرك أن مصلحتها تكمن في إفشال أي حل سياسي راهنًا، بينما الروس مستمرون مع النظام في غاراتهم على ريف إدلب، والتي توقع يوميًا المزيد من الضحايا بما فيهم المدنيون، فيما يستمر التصعيد الديبلوماسي والإعلامي بين واشنطن وأنقرة بصدد أزمة تأشيرات السفر بين البلدين، مترافقًا بتهديد أميركي معلن ضد أي تعرض للميليشيا الكردية المدعومة من التحالف الدولي.

فماذا بخصوص السوريين؟

إذا كان دخول الجيش التركي إلى إدلب، منح أملًا بالنسبة إلى بعض السكان المدنيين وبعض السوريين، يبعدهم عن خيار القصف والتدمير الذي حاق بالرقة ودير الزور؛ فإن السوريين يخشون ويرفضون أن يتم ذلك ضمن مقايضة تُبقي (هيئة تحرير الشام) أو (النصرة)، مهما غيرت من راياتها السوداء، لأن ذلك يعني إعادة توطين الإرهاب في بلادنا، وتحويلها إلى دولة فاشلة، وتستمر مع تقسيم أو من دون التقسيم.

هذا يفترض أن تراجع المعارضة السورية الكثيرَ من خياراتها السابقة قبل فوات الأوان، وبشكل خاص تلك الخيارات التي قادت إلى أسلمة الثورة وعسكرتها، كمقدمة لدخول قوى ظلامية وإرهابية إلى سورية، لم تلبث أن ابتلعت الثورة وكادت تبتلع سورية أيضًا، كما ساهمت في تفتيت الجهد السياسي وتغييب المشروع الوطني، بحيث لم يعد أمامنا الآن إلا الخيار الديمقراطي الذي ينطلق من مشروع وطني سوري، يقوم على مصالحة وطنية بين مكونات الشعب السوري قاطبة، وفي طليعتهم كرد سورية وتعبيراتهم السياسية، ليس لأنهم خيار الإدارة الأميركية في هذه المرحلة، بل لأنهم جزء أساسي من برنامج وطني ديمقراطي، لا يكتفي بالاعتراف لهم بحقوق المواطنة، بل يمنحهم أكثر من ذلك، حقوقهم القومية كشركاء في صنع مستقبل سورية، ويمنح السوريين القدرةَ على التأثير في مراكز القرار وصنع الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، وتغيير مواقف الدول حيال ما يجري في سورية، ومستقبل السوريين.


أنور بدر


المصدر
جيرون