تشظيات الوعي وأزمة النظام العربي



من طبائع القبيلة التفردُ بالمكان والنسب، فالمكان الصحراء والنسب رابطة ذهنية عصبوية منغلقة على جملةٍ من العادات والتقاليد والأعراف، لا تقبل الخروج منها ولا الدخول إليها إلا بشروطها الصارمة التي تلغي أي خيار للفرد أو الجماعة. وهذه الطباع تفرض نوعًا خاصًا من التصارع على المكان والنسب ينتهي بالإلغاء أو التشظي. إنها حالة تصحر ذهنية كيانية شبيهة بحالة الصحراء المكانية التي لا تتقبل الجميع، تحت وطأة الاستحواذ على مواردها النادرة من أجل التفرد بالبقاء.

إن بنية العقل العربي المنتجة للوعي لا تزال تعيش حالة من التناقض قديمة قدم القبيلة العربية، بين انغلاقها على ذاتها بحكم وعيها لذاتها فقط، وبين انفتاحها على الآخر بحكم الضرورة الملحة، أنتجت في الماضي- عندما غلّبت الانفتاح على الانغلاق انفتاحًا على الداخل والخارج- فلسفةً عريقة ساهمت في خلق وعي جمعي لمشكلات المجتمع العربي آنذاك، من حيث معرفتها بالمشكلات ومعالجتها، وقد أثمر هذا الوعي دينامية مجتمعية موحدة، في وقت كان العالم يعيش حالة من التقهقر والتشظي.

وطالما القبيلة العربية ما تزال تنوء بأحمال ماضٍ يقوم على العزلة والتشظي؛ فإن ذهنيتها الصحراوية لم تتغير، بالرغم من انتقالها من حياة الصحراء إلى حياة الريف والمدينة، أكثر من ذي قبل، بل طعمتها بنكهة تكاذب وخداع في جملتها وشروطها على مستوى الوعي الجمعي. حالة التصحر الذهني تلك أضحت سمة غالبة للقبيلة العربية المعاصرة، السياسية والمجتمعية سلطة أو تنظيمًا أو جماعة، بحكم الوراثة، وتتميز بمقاومتها للتغيير لترسيخ تفردها، مكانيًا وذهنيًا، واستحواذها على الندرة، ماديًا ومعنويًا، عبر أشكال متغيرة للصراع من أجل البقاء والهيمنة، تبدأ بتسلط شيخ القبيلة وحاشيته، وتنتهي بعلاقات مشبوهة متفردة مع سلطة في مكان ما خارج القبيلة، داخل الصحراء ذاتها أو من خارجها، وكما أن القبيلة لم تتحرر من أسر الصحراء، فإن أفرادها كذلك لم يتحرروا من أسر القبيلة، وبقي المجتمع العربي يدور حول نفسه، يعيد إنتاجها ولو بأشكالٍ، تبدو مختلفة بالشكل لكنها واحدة في الجوهر، تشظي الدولة والمجتمع، بين إمارات وطوائف ومذاهب ومناطق وعرقيات وأيديولوجيات وشرق وغرب… بذهنية الصحراء ذاتها.

لقد بلغ حدّ التفارق، بين القبيلة العربية المعاصرة والعالم المعاصر الذي يمتاز بالعلم والتكنولوجيا والنظم الحديثة، أوجَه من خلال حالة تشظٍ، تعيد إنتاج حالة الانسداد التاريخي ليس فقط في الدول التي تشهد صراعات حادة، كالعراق وسورية واليمن وليبيا ومصر وتونس ولبنان والصومال، إنما أيضًا في الدول التي تشهد قشرتها الخارجية تصالحًا سياسيًا اجتماعيًا مؤقتًا، لكن تحتها ذهنية صحراوية في وضعية تشظ مجتمعي عام. إن ذهنية التشظي القبلي هي السبب الرئيس في انسداد الأفق التاريخي للمجتمع العربي المعاصر، والتي تحول دون توحده حول مشروع وطني واحد ينسجم مع روح العصر، ويؤسس لدور عربي في الحضارة العالمية.

هذه الذهنية لا تعكس الميزة النسبية للتعدد والاختلاف والتنوع في المنطقة العربية، بقدر ما تعكس تخلف الوعي تجاه المشكلات المعاصرة التي تعانيها المنطقة، وعجزه عن استثمار هذه الميزة في بلورة مشاريع وطنية نهضوية، إذ إن هذا الوعي لم يخرج قط من عباءة القبلية، وظل يتناغم مع تصدعات البنيات الاجتماعية التقليدية، ومرتهنًا لسطوة الاستبداد السياسي والديني والفكري. ويأتي في هذا السياق مشهدُ التشظي القبلي في الحالة السورية الراهنة، حيث تتعدد المشاريع بتعدد الأهواء والنزوات السياسية المقرونة بتعدد التشكيلات التي تتفرخ الواحدة تلو الأخرى، لدى طرفَي الصراع، فمن جانب السلطة التي تبدو في الظاهر موحدة الرؤية هي في الواقع تخفي تشظيات بين هوى إيراني وآخر روسي، وربما ثالث أميركي، ورابع تقسيمي، وخامس توحيدي، وسادس بؤري.. شخصي مصلحي، ومن جانب المعارضة الأمر أكثر انفضاحًا، حيث يختلط الحابل بالنابل في زحمة أهواء ونزوات، تراوح بين أميركية وروسية وتركية وإسلاموية وقومية وعلمانية وتوحيدية وتقسيمية، ومنصات من هنا وهناك تطلق النار على بعضها، والحبل على الجرار. وخارج إطار طرفي الصراع: السلطة والمعارضة، تشظٍ عام لدى الغالبية المجتمعية يراوح بين الصمت والتهميش واللامبالاة أو مسك العصا من منتصفها… تشظيات يتوه الجميع بين ثناياها وخفاياها، وينزلق الوطن في خضم هذا التيه نحو ضياع ليس له قاع، لأن ليس بين هذه المشاريع كلها مشروع وطني إنقاذي جامع يؤسس لوطنٍ حر ومستقل، وطن لجميع منتسبيه يراعي تنوعهم واختلافهم، يحل المواطنة محل النسب القبلي، وذهنية المدنية محل ذهنية الصحراء؛ فيقطع مع ماض تعيس عقيم، ويوصل بين ماضٍ عريق ومستقبل واعد خصب يحجز للأجيال القادمة كرسيًا على مائدة الحضارة العالمية، عوضًا عن كرسي القبيلة الذي يتنازع عليه أفرادها، بينما توحدهم صورة امرأة عارية أو نكتة سمجة، وهم العري ذاته الذي يصدح -صباح مساء- بالنكات السمجة، ويفضح تشظيات الوعي وخيبات النظام العربي.


مهيب صالحة


المصدر
جيرون