on
في أسباب محاربة الحراك النسوي
تباينت مفاهيم الحركة النسوية عالميًا، منذ بداياتها في القرن التاسع عشر، عمّا هي عليه اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، فكانت تتأثر بالمراحل الزمنية والمناطق الجغرافية التي تتنشر فيها، مع احتفاظها بجذر مشترك هو الدفع بقضايا المرأة، على الرغم من التعددية السياسية والتدرج الفكري الذي تتسم به بالإضافة إلى تفاعلها المستمر مع ما تم إنجازه من حصول المرأة على حقوقها، وهو أمر شديد التباين بين مختلف المجتمعات.
في هذا السياق، جاءت عودة الحراك النسوي السليم في سورية مليئة بالتحديات، بعد فترة جمود مجتمعي قسري طويلة، اقتصر خلالها هذا الحراك على أداتين رئيستين تابعتين للاستبداد، قطب (الاتحاد النسائي) التابع لحزب البعث، وقطب حركة (القبيسيات) النسائية الإسلامية.
يبدو التحدي الأكبر في وجه الحراك النسوي اليوم متمثلًا في مواجهة التنوع المجتمعي الكبير، والتعدد المذهبي والفكري واسع الطيف ضمن المجتمع السوري، وجمع الرأي على جذرٍ مشتركٍ، يدعمُ مصلحة المرأة السورية عبر كافة التيارات النسوية المتفاوتة بالفكر والتوجه الفرعي، ويحميها من الانجراف بعيدًا نحو تبني أفكار منعزلة عن احتياجات وواقع المرأة السورية اليوم، حتى يشكل -فعليًا- تيارًا مؤثرًا قادرًا على التصدي للمقاومة الكبيرة التي تمنع عبوره إلى عمق المجتمع. ومثل هذا الانحراف وارد، وقد شهدته تيارات نسوية في الغرب أيضًا، فاقتصرت على تبني مطالب فئات نسائية أقلية في المجتمع مبتعدة عن استقطاب الرأي العام بشكل فاعل نحو دعم قضية المرأة.
يُقابَل تيار الدفاع عن حقوق المرأة السورية اليوم بشريحة واسعة رافضة، تحت عدة أشكال، منها الإنكار الكامل لضرورة المطالبة بحقوق المرأة تحت أي مسمى، ومنها التخوين بأن من غير الممكن المطالبة بحقوق المرأة في ظل ثورة شعبية، أو اتهام النساء السوريات باستغلال فرض الـ “كوتا” من قبل المجتمع الدولي لتحقيق أهدافهنّ، أو اتخاذ موقف ساخر مستهزئ بالحركات النسوية السورية الناشئة بعد انطلاق الثورة السورية، أو باتهام الحركات النسوية بتهديم القوانين الأسرية والمجتمعية، أو عبر موقف متعاطف ظاهريًا، لكنه رافض لتمكين هذه المفاهيم الداعمة لحقوق المرأة قانونيًا بشكل صلب.
تعكس جميع هذه المسوغات الرافضة للحراك النسوي امتلاكَ مفاهيم مغلوطة عن حقوق المرأة، أو النظر إلى جزء من المفاهيم دون غيرها؛ ما يؤدي إلى رفض مسبق للحراك النسوي، بمجمله وليس بجزئيةٍ ما منه، ولا يصب ذلك في مصلحة المرأة السورية ودورها المستقبلي المنشود في سورية.
المفاجئ أننا لو نظرنا إلى رأي هذه الشريحة تجاه بعض المبادئ المجزأة عن حقوق المرأة التي تشكل أساسًا للجذع المشترك لكافة حركات التحرر النسائي، بالحصول على المساواة التامة في مجالات الصحة والتعليم والعمل، ومناهضة العنف والزواج المبكر؛ لوجدنا أن غالبية المجتمع تتبنى هذه الأفكار منفردة وتدافع عنها، لكن الأمر يتعقد عند الحديث عن الحراك النسوي.
لماذا يُحارَب الحراك النسوي إذًا؟
بداية، الموروث ثقيل، وهو يعدّ تحررَ المرأة مناقضًا للعادات والتقاليد، ويسوده التخوف من نظرة المجتمع التقليدي إلى هذا الأمر، إضافة إلى أن السوريين اليوم يتلقون الكثير من المفاهيم التي غابت طويلًا عنهم مثل العلمانية، الديمقراطية، المساواة، حقوق الإنسان، الحرية، وما إلى ذلك من شؤون المجتمع السوي التي غُيّبت في مجاهل الظلم، طوال خمسين عامًا، ويحتاج كلٌّ منها إلى تنشئة تدريجية وخبرات واقعية لتبنيها، وهو أمر غير متاح اليوم.
لكن ذلك لا يلغي المسؤولية الملقاة على عاتق الحراك النسوي الذي لم يوصل الرسائل بوضوح إلى المجتمع السوري، أو تقيّد في صورة التحرر الغربي حينًا، وفي الصورة النمطية عن المرأة الضحية أحيانًا أخرى، بينما تُخلق النسوية من حاجة المرأة في كل مجتمع، وهي حاجات مرحلية، فما يلزم الوصول إليه اليوم في مجتمع قضى نصف قرن حبيس الاستبداد تلتها سبع سنوات من الحرب، ليس هو نفسه ما ستحتاج إليه المرأة السورية بعد عشرة أعوام أو حتى في مرحلة السلام وإعادة البناء.
تهاجَم النسوية أيضًا؛ لأن بعض الآراء تفترض أنه مفهوم يلغي الآخر ويحاربه، وبالتالي فإن القضية لا يمكن أن تعنيه، وإن لم تشمله؛ فهو ضدها. وهي نظرة قاصرة عن إدراك ارتباط حرية المرأة بحرية المجتمع، وأن لا انفكاك بينهما، وعن إدراك أن الثورة السورية ثورة فكر لا يمكن إلا أن تمر عبر نهوض المرأة.
لم تترسخ تلك المفاهيم على نحو كاف، ولم تتم الإضاءة عليها طوال سبعة أعوام من الثورة، ومن الضرورة اليوم تركيز الجهود على أن النساء والرجال يجب أن يتمتعوا بالمواطنة المتساوية، وهذه المواطنة مرتبطة بالحرية الفردية لكل منهما، وهي أهداف لن تتحقق في ظل حكم استبدادي، بل تتطلب قيام دولة القانون الذي يضمن لكل مواطن حقوقه ويدافع عن حريته. وحقوق المرأة وحريتها هي جزء لا يتجزأ من تحقيق ذلك الهدف، بل هي معيار له وبوصلة.
سميرة مبيض
المصدر
جيرون