مصدر ربحٍ وأمراض في آنٍ واحد .. الحرّاقات في إدلب: الحاجة تصطدم بالمخاطِر




“دخانٌ خانق و سواد دائم ورائحة لم نعد نميّز غيرها”، بهذه الكلمات تحدّث الشاب طارق شلي، عن تأثير الحراقات النفطية التي أقيمت بجوار داره في قرية معارة النعسان بريف إدلب، يقول شلي مشيراً إلى ولديه “هذان الطفلان أصبحا مريضَين بالربو، نحن ندفع ضريبة هذا الدخان من أجسامنا في الوقت الذي يملأ هؤلاء التجار جيوبهم”.

خلال السنوات السابقة انتشرت في مناطق ريف إدلب مئات الحرّاقات البدائية لتكرير النفط والحصول على مشتقاته، وأصبحت هذه المهنة واحدة من أكثر الأعمال التى تدرّ ربحاً على أهالي المنطقة، ويأتي النفط الخام الذي يتم تكريره عبر تلك المصافي من الآبار التي باتت تسيطر عليها “وحدات الحماية الكردية” لاسيما من حقل الرميلان، لتقوم المصافي بتكريره، وتحويله إلى (بنزين، وكاز، ومازوت).

انتشار واسع

تنتشر مصافي التكرير البدائية غالباً بين الطرق المؤدية إلى القرى، أو في الأراضي الزراعية المشاع التي لا تعود ملكيتها لأحد بسبب تأثيرها على المحيط، وتتكون الحراقة من مواد بدائية بسيطة تصنع يدوياً (خزان ضخم، وأنابيب معدنية، وساقية لتمرير النفط، وساقية أخرى لتبريده بالماء).

ويشكو سكان ريف إدلب مؤخراً من تزايد أعداد هذه الحراقات بشكل كبير لأسباب وصفت “بالتجارية”، وبحسب الناشط الإعلامي في مدينة كفرنبل بلال بيوش فإنّ صناعة تكرير النفط في الآونة الأخيرة “باتت تلقى رواجاً كبيراً منذ أشهر عقب سماح الوحدات الكردية بوصول النفط خاماً فقط إلى إدلب، بعد أن كان يأتي مكرراً وجاهزاً من مناطق تنظيم داعش”.

ويضاف إلى هذا وفق بيوش “الأرباح المادية الكبيرة والسريعة التي باتت تحققها هذه الحراقات لأصحابها، وعدم وجود أي تنظيم لهذه العملية أو تراخيص تحدد حاجة كل منطقة للحراقات”.

ويضرب الناشط الإعلامي مثالاً للانتشار الواسع لهذه الحراقات ففي قرية صغيرة اسمها كفريحمول، اضطر المجلس المحلي للتدخل و إبعاد ما يقارب 40 حراقة أقيمت في القرية ومحيطها إلى مناطق أبعد.

“لم تنجح جميع المحاولات بإبعاد هذه الحراقات عن المناطق السكنية” كما يؤكد عضو المجلس المحلي السابق لمدينة كفرنبل عبد الرحمن بيوش، ففي كفرنبل خرجت شكاوي كثيرة من الأهالي بسبب الدخان المنبعث إليهم وانتشار الأمراض بين أطفالهم، وتقدّم المجلس المحلي بشكوى رسمية إلى مخفر المدينة التابع لـ “هيئة تحرير الشام” لكن الأمور بقيت على حالها حتى اليوم.

ويوضح بيوش لـ”صدى الشام” أنّ المشكلة الأساسية ليست في وجود هذه الحراقات بحد ذاته حيث كان لها دور كبير في خفض أسعار المحروقات وتأمينها عند انقطاعها، بل تكمن القضية الأساسية في “زيادة أعدادها بشكل كبير وعدم مراعاة الشروط الصحية لإقامتها، وهو ما بات يشكل خطراً بيئيا كبيراً على المنطقة بكاملها”.

دور هام

في بداية العام 2013 قطع نظام الأسد كافة المحروقات عن المناطق المحررة في الشمال السوري فكان الحل بتكرير الخام منه محلياً، ورغم رداءة أنواعه بدايةً إلا أنه استطاع تأمين المحروقات للأهالي بأسعار مقبولة.

وفي هذا السياق يتحدث قتيبة عمر، صاحب أحد الحراقات في قرية كفريحمول، عن أهمية الدور الاقتصادي الذي تلعبه هذه المصافي، فبالإضافة إلى تشغيلها آلاف العاطلين عن العمل فهي تخفض أسعار المحروقات مقارنة بتلك التي تأتي من مناطق النظام، وبالتالي تساهم في إنعاش الأسواق والتي تعد المصدر الرئيس في عمل جميع المؤسسات والخدمات من مياه وكهرباء ومخابز ومشافٍ غيرها.

ويضرب الشاب الثلاثيني العامل في هذه المهنة منذ نحو عامين، مثالاً للدور الاقتصادي الذي تلعبه هذه الحراقات ففي الوقت الذي ينقطع فيه البنزين القادم من مناطق النظام باستمرار ويصل سعره لقرابة 500 ليرة لليتر الواحد، تبيع هذه المصافي ليتر البنزين بقرابة 200 ليرة وهو مايظهر الفرق الواضح.

وفي سؤال حول جودة المحروقات الصادرة من هذه الحراقات خاصة بالنسبة للسيارات أجاب عمر أنّ “سائقي السيارات والشاحنات تحديداً لديهم خيار استخدام المحروقات المفلترة كهربائياً، والتي يتم إنتاجها في المناطق المحررة وتصل من خلالها المحروقات لدرجة جيدة من الجودة وبأسعار مقبولة”.

ويؤكد عمر لـ “صدى الشام” أنّ هذه الحراقات ليست ذات أضرار صحية كبيرة كما يتحدث عنها السكان ولو كانت بهذا السوء لكان تأثيرها أولاً على العاملين بها، ويستدرك:” المشكلة الأساسية هي في الروائح المنبعثة أثناء عملية التكرير بسبب نوعية النفط الخام القادم من حقل رميلان الذي يتميّز نفطه برائحة غير محببة، ويمكن تفاديها -وفق رأيه- من خلال “حبس الغاز الناتج واستخدامه من جديد في إشعال النار”.

وينوّه عمر إلى أنّ هذه المصافي رغم بدائيتها “تعتبر تجربة فريدة ورائدة خلّصت سكان المناطق المحررة من احتكار النظام للموارد وتحكمه بها”.

تأثيرات سلبيّة

تنبع معظم الاعتراضات المقدمة على هذه الحراقات من دواعٍ طبية وبيئية، حيث يشكو العديد من الأهالي تأثيراتها السلبية وتسببها بأمراض تنفسية حادة مثل الربو والتهاب القصبات خاصة للأطفال.

وفي لقاء مع “صدى الشام” قال الطبيب أحمد العودة، المختص بالأمراض الصدرية إنّ هناك ثلاثة أنواع من الغازات السامة تنتج عن عمل الحراقات وهي: غاز “أوكسيد الآزوت” وغاز “كبريت الهيدروجين” و الغازات “الهيدروكربونية”، ويؤدي استنشاقها “لأمراض تنفسية حادة مثل الربو والتهابات القصبات والرئة، كما أنها عامل أساسي في انتشارالسرطانات الرئوية والكبدية والدموية وغيرها”.

ويوضح الطبيب المقيم في إدلب أنّ نسبة الأطفال المصابين بأمراض تنفسية ارتفع بشكل واضح بسبب هذه الانبعاثات والتي يؤدي استنشاقها بشكل كثيف أحياناً إلى تشوهات ولادية وأمراض جلدية متنوعة.

وللحد من هذه التأثيرات نصح العودة، الأهالي بالابتعاد عن أماكن عمل هذه الحراقات ما أمكن، وتجنب أبناءهم الاقتراب منها والإكثار في الوقت ذاته من شرب الحليب والسوائل بشكل عام، ومنها الزنجبيل والقرفة، كمواد مساعدة على التخلص من السموم في جسم الإنسان.

وفي السياق ذاته ترتبط بعض الآثار السلبية مستقبلاً لهذه الحراقات بالغطاء النباتي، ويقول الخبير الزراعي ماهر عقلة إنّ “عمليات التكرير تتم ضمن الأراضي الزراعية، وهذا له أضرار مباشرة على المنتجات الزراعية لاسيما القمح والشعير والقطن، والأخطر من ذلك على الخضار التي تستهلك بشكل يومي”.

ويضيف عقلة “تساهم هذه الأدخنة بمضاعفات كارثية ومستقبلية على نوعية التربة، بسبب ترسب المواد الناجمة عن الحرق والدخان على الأتربة الزراعية وعلى أوراق النباتات وهو أمر بدأت تظهر نتائجه حالياً باختفاء الغطاء النباتي القريب من مناطق عمل هذه الحراقات”.

 التنظيم هو الحل

تأتي معظم اعتراضات المدنيين على استخدام هذه الحراقات نتيجة تضررهم من روائحها وانبعاثاتها، وفي الوقت ذاته فإن الاستغناء عنها دون تأمين بدائل قد يتسبب بأزمة اقتصادية.

وحول الحلول التي يمكن اعتمادها لتنظيم عمل هذه الحراقات والحد من تأثيراتها رأى عبد الرحمن البيوش، عضو المجلس المحلي السابق لمدينة كفرنبل، أنّ تنظيم هذا الملف هو “من واجب الإدارات المحلية والتي يجب أن تطبق قراراتها من قبل الأجهزة التنفيذية”.

ورأى بيوش أنّه يجب ترخيص هذه المصافي والحد من أعدادها ومراقبة آلية عملها وإغلاق المخالفة منها التي لا تلتزم بالمعايير المحددة للعمل.

وحول الحلول القريبة الممكنة اقترح بيوش أن يصدر حكم قضائي بإبعاد هذه الحراقات لمسافة لا تقل عن 15 كم عن أقرب تجمع سكني وهو أمر يمكن تحقيقه اذا ما تم الحد أولاً من أعدادها.

يشار إلى أن فصل الشتاء القادم سيزيد من الطلب على الوقود المكرر وهو ما يعني ارتفاعًا متوقعًا في أسعار الوقود من جهة وزيادة في أعداد هذه الحراقات.




المصدر