عن “الجهاديين” في سورية وكذبة البيئات الحاضنة



بيّنت مجريات الصراع في سورية -وفي العراق أيضًا- في معارك الزبداني وتدمر وريفي حلب وإدلب ودير الزور والرقة، أنه لا توجد بيئات شعبية حاضنة لا لـ (داعش) ولا لـ (جبهة النصرة) وأخواتها، وأن هذه الجماعات نشأت، في حقيقة الأمر، بفضل تدخلات وتلاعبات خارجية، أي ليس نتاجًا لحراكات في التيارات السياسية الإسلامية السورية (والعراقية). وفي الواقع، إن قوى السلفية الجهادية لم يكن لها وجود يذكر، لا في سورية ولا في العراق، يفسّر صعودها السريع والمفاجئ والكبير، على نحو ما شهدنا في عامي 2013 و 2014.

ولعل عمليات تفكيك وتفكّك هذه القوى، الجارية الآن بالقوة الخشنة أو بالقوة الناعمة، و”ذوبانها”، تؤكد ما ذهبنا إليه، كما تؤكده التظاهرات الشعبية في المعرة وسراقب وإدلب، وحتى في الغوطة حيث شهدنا تظاهرات تحتج على بعض ممارسات “جيش الإسلام”؛ ما يعني أن البحث في كيفية ظهور وصعود (داعش) و(النصرة) يجب أن يتركز في غرف استخبارات الدول المعنية، لا في البيئات الشعبية السورية، من دون إنكار أن بعض السوريين اضطروا إلى الانخراط  في هذه القوى لأسباب أمنية أو معيشية، بحكم هيمنتها عليهم، وليس لأسباب أيديولوجية أو لجاذبيتها السياسية.

معلوم أن (داعش) و(جبهة النصرة)، لم يخوضا معارك حقيقية ضد النظام، وأن معظم معاركهما كانت لإزاحة “الجيش الحر” وفصائل المعارضة العسكرية الأخرى، على الرغم من خلفيتها الأيديولوجية الإسلامية، وكان كل همهما مجرد الهيمنة بالقوة على المناطق الشعبية الحاضنة للثورة، والتنكيل بالسوريين فيها، وإضعاف فصائل المعارضة العسكرية، وإقامة إقطاعات خاصة بها. كما يستدل على ذلك أن الأنوية الصلبة لهذين الفصيلين هي غالبًا من “المهاجرين” غير السوريين، من أفغانستان وباكستان وتونس والأردن والخليج والعراق، الذين أتوا وتمكنوا بفعل قوى دولية وإقليمية، وضمنها إيران والنظام، في مسعى لتحويل الصراع في سورية، من صراع سياسي إلى صراع ديني أو طائفي، ومن صراع شعب ضد النظام إلى صراع ضد الإرهاب. ومعلوم أصلًا أن هذه القوى كانت معادية للثورة، ولم تحسب نفسها عليها، كما كانت معادية لمقاصدها في الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية.

في غضون ذلك، ربما يفيد أن نتذكر أن تصعيد هذه الجماعات حصل بعد وأد الحراكات الشعبية في سورية والعراق، وتبييض السجون، أو تهريب “الجهاديين” من سجون هذين البلدين، إن بموجب قرار رئاسي في سورية أو بتهريبهم من سجن أبو غريب تموز 2013، إذ بعد عام واحد من ذلك؛ تم تمكين (داعش) من السيطرة على الموصل (بأسلحة أربع فرق عراقية وأموال البنك المركزي)، ثم السيطرة على الرقة. كما يفترض أن نتذكر، في هذا السياق، أن التيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة لم تقم بما عليها لتمييز نفسها ودحض أطروحات هذه القوى المتطرفة، وكشف تغطّيها بالإسلام، بسبب نظرة ضيقة إلى ما بات يعرف بـ “أخوة المنهج”، أو نظرة انتهازية لإمكانية الاستفادة من هذه القوى، أو نظرة قاصرة لا تدرك مخاطر توظيف الدين والطائفية، ولا سيما في الصراعات السياسية العنيفة. وفِي المحصلة، فإن الجماعات السلفية العنيفة والمتطرفة والمتعصبة أساءت إلى الإسلام والتيارات الإسلامية المدنية المعتدلة، وشوهت صورتها، وضعضعت شرعيتها أمام شعبها والعالم، كما نجم عنها تداعيات خطيرة على السوريين وثورتهم.

واضح هنا أننا نميّز بين الإسلام بوصفه دينًا، وبين تأويلاته أو ترجماته الحياتية، من قبل حركات أو أفراد، إذ إن تسييس الدين أو أدلجته هو عمل أفراد أو جماعات، فهكذا فقط يمكن تفسير قابلية “إسلاميين” لقتل “إسلاميين” آخرين، بادعاءات مختلفة، منها خروجهم عن صحيح الدين، و”الفرقة الناجية”، وتكفير مجموعة لغيرها، بادعاء أنها تحتكر تمثيل الإسلام والمسلمين، بل الوكالة عن الله (الحاكمية)، وهو ما يحصل في تجربة الجماعات الإسلامية المتطرفة أو السلفية الجهادية في سورية (مثلًا جبهة النصرة وأخواتها) يؤكد ذلك.

ينطوي ذلك على التمييز، أيضًا، بين التيارات الظلامية العنيفة والعدمية والتيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة والواقعية، مع تأكيدنا أن هذا التيار لم يضعف بسبب مواجهته من قبل علمانيين أو قوميين أو يساريين، بقدر ما ضعف من داخله، بوجود جماعات متطرفة، ومتعصّبة، وعنفية؛ شوهت الإسلام وأضرت بالمسلمين، وقوضت شرعية تيارات الإسلام المدني والدعوي.

في المحصلة، وبعد كل هذه التجربة، لا بدّ لقوى الثورة السورية، الوطنية، والحية، من مراجعة تجربتها السابقة التي انطوت على مجاملة بعض القوى للجماعات السلفية الجهادية المتطرفة والمتعصبة، وضمنها (جبهة النصرة)، وانتقادها، والقطع معها. وضمن ذلك لا بد من القطع أيضًا مع التجربة العسكرية التي انتهجتها، والخطابات الدينية والطائفية التي صدرتها، في سعيها لإزاحة الثورة عن طريقها كثورة شعبية، من أجل التغيير الوطني الديمقراطي. وكما كتبنا في مادة سابقة، فإن الثورة السورية باتت أمام منعطف جديد، ولنأمل أن ثمة قوى قادرة على إدارة هذه المرحلة، بالاستفادة من تجارب السنوات الماضية.


ماجد كيالي


المصدر
جيرون