كاميل كلوديل: نحت الروح…يعذبني –دائمًا- شيء ما غائب



في بلجيكا، دفعني فضولي السياحي إلى دخول صالة معرضٍ ما، تبين لي -فيما بعد- أنه معرض لأعمال (كاميل-رودان)، في أثناء علاقة حبهما وبعد انتهائها. لكن ما أوقفني بجمود منحوتةٌ اعتبرتها -حينئذ- من أجمل منحوتات “رودان”، وأشدّها تعبيرًا. كانت منحوتة امرأةٍ بلا رأسٍ، تطير مقدِّمةً للبشرية فرجها الذي هو “أصل الخليقة”، لأن جسم المرأة، كما قال رودان: “عبارة عن معبد يسير.. معبد له -ككلِّ المعابد– نقطة ارتكاز، تدور الحجومُ من حولها، كهندسة متحركة”، لذلك، كانت تلك العبارة “إيريس رسالة الآلهة” التي قالها، بعد أن أنجز ذلك العمل إبان انهيار علاقته مع كلوديل. فيما بعد، دفعني ذلك الجمود عند تلك العبارة، والإنجاز الروداني الذي يخصني بالاسم فقط، إلى البحث المعرفي لتلك العلاقة بين مبدعيْن: “من خانني يستطيع ببساطة أن يسرق أعمالي، وينسبها إليه؛ لذلك حطمت منحوتاتي”. كاميل كلوديل هي عاقلة، وما حدث معها كان مجرد ردة فعل على خيانة شخص لها، كانت تحبه.

في المصح، توسلت إلى شقيقها آلاف المرات قائلة: سئمت برودة المكان، لا حطب يكفي ليدفئ جسدي النحيل، وروحي التي تريد أن تحلق إلى الضوء.. اشتقت إلى أمي.. إلى غرفتي والإطلالة منها على الشارع، على الحياة.. ساعدني أرجوك”. لكنه رفض هذا النداء، ولم يبادر ولا بتربيتٍ خفيفٍ على كتفها، بل كان يعاتبها، ويقول لها: “إن هذا مصيرك كي تكفّري عن ذنوبك”، ثم يغادرها؛ فتصمت ولا تتحرك، لتُمضي ما تبقى لها من حياة في مصحٍ للمرضى العقليين الذين سلبوا قدرتها على تشكيل صلصال من طرف الأرض الموازي لشباك غرفتها، فكانت تقترب من الطين تمسكه، تحاول شمّه، لكنها لا تشعر بشيء فتلقيه جانبًا، وتبكي.

كاميل كلوديل‏ (1864 – 1943) ولدت لعائلة بورجوازية متدينة. شغفت بالفن والنحت، في مجتمع لم يكن -آنذاك- يتقبل المرأة فنانة مختلفة؛ فاضطرت إلى مواجهة مجتمعها لتحقيق أحلامها وطموحها الفني، واصطدمت مع أمها كثيرًا، في حين أن والدها كان يدعمها ماديًا ومعنويًا، ويؤمن بموهبتها.

“كاميل” التي استطاعت أن تجعل أقسى الصخور لينةً في يدها لتنحتها كما تشاء، لم تستطع امتلاك قلب عشيقها الفنان النحات “أوغوست رودان” الذي تعرفت عليه في معهد، كتلميذة شابة لها من العمر 19 عامًا.

جمالها وشغفها بالفن، وبَصْمَتها الذاتية في أعمالها، جعل هذه العلاقة تتحول سريعًا إلى علاقة حب؛ لتصبح معاونتَه في أعماله وعشيقته السرية. لكن هذه العلاقة المضطربة غير المتوازنة، جعلتها تتأرجح معه بين الحب والكراهية، الأمل واليأس، كما جعلها أسيرةً، كونها تلميذةً له، فلم تستطع “كلوديل” أن تسوّق أعمالها الفنية، خارج نطاق “رودان” وحضوره الفني آنذاك، على الرغم من شهادته الصريحة والمباشرة وكلماته الملتهبة التي كتبها ذات يوم: “يا طيّْبتي، إني أركع جاثيًا أمام جسمك الجميل الذي أحتضنه”. لأنه كان يحبها حتى الجنون، أضف إلى ذلك اعترافه الصريح بغنى موهبتها المميز قائلًا: صحيح أني حدّدتُ لها مكان وجود الذهب، لكن الذهب الذي تعثر عليه هو لها وحدها”.

كاميل الفنانة والنحاتة الفرنسية كانت شقيقة الشاعر والكاتب والدبلوماسي “بول كلوديل”، لكن صدف الحياة الحائرة دفعتها إلى قبول حب أستاذها النحات الفرنسي المشهور “أوجست رودان” الذي يكبرها بأربع وعشرين عامًا، والذي انتهى بانفصالهما بعد أن رفض التخلي عن رفيقته وزوجته غير الشرعية “روز بورييه” التي تقاربه في العمر، لإخلاصها له ووقوفها إلى جانبه دائمًا، وتسبب ذلك في احتجازها في مصح نفسي، عام 1913 إبان إصابتها بنوبات صرع وانفصام في الشخصية. أحبته، ووجدت نفسها محكومة حتى موتها بالدفاع الشرس عن تفردها وموهبتها وحقيقة مشاركتها الفعلية في إبداع أشهر أعماله الفنية، كـ “القبلة” و”المفكر”.

لقد بحث “رودان” عن شموخ التعبير الإنساني وجمالية الجسد، لذلك علّم “كاميل” كيف تنحت الأشياء والأشخاص من خلال نظرة شاملة، لكنها علّمته كيف يدع الروح وشأنها، كي تبث أنفاسها الشاعرية حتى أدق التفاصيل الموجودة في المنحوتة.

منحوتات “رودان” كانت مليئة برغبته الشبقة لأجساد الفتيات اللواتي يعرضن أجسادهن، بعكس “كاميل” التي كان كل تركيزها على التعبير العلوي من الرأس للمنحوتة، ونبذ العلامات الجسدية، فهو لم ينظر إلى “كاميل” إلا بطابع منحوتة، وثورة شبق تشعل الإلهام عنده. أما هي، فجعلت منه عالمًا يحتضن روحها وجسدها، وتمثلت تلك الحالة في العديد من المنحوتات المشتركة بينهما.

وهكذا بقيت في حالة دفاع عن أعمالها وتفردها بها، فلطالما لاحقتها الاتهامات بتأثير “رودان” على أعمالها، ولمساته فيها، في الوقت الذي قالت: “أنا رودان، ورودان أنا”، مشيرة إلى تأثير كل واحد منهما على الآخر، والأثر الذي تركته علاقتهما الطويلة الممتدة لأكثر من عشر سنوات على أعمالهما سويًا، حيث كان يبدو ظاهرًا أنه لم يتأثر بفراقها، إلى الحدِّ الذي تأثرتْ هي بفراقه.

لقد حوّل “رودان” “كاميل” -من دون أن يدري- إلى أيقونة تراجيدية ناضحة بالرموز؛ إذ أُقْصيت الفنانة عن عرش واقعيتها، لتصبح رمزًا للمثابرة والتضحية والحب اليائس. كما صار وجهها، في عُهدة أستاذها المشهور، قناعًا جميلًا، ما برح يتشقق لفرط ما يخفيه من ألم وشعورٍ بالوحدة. وقد عبرت عن طبيعة علاقتها بالنحات بهذه الكلمات: “أنام عارية لأوهم نفسي بأنك إلى جواري، ولكن عند الصباح أدرك أني وحدي… الأهم بالنسبة إلي هو ألا تخونني، بعد الآن، مع نساء أخريات”.

إن بعض التمعن في ما قدَّمه من أعمال بعد فراقهما، يجعلنا شبه متيقنين من أن هذا الفراق ترك أعمق الأثر في نفسه؛ الأمر الذي انعكس انعكاسًا جليًّا على أعماله. لهذا السبب، ربما، لم يستطع أن يكمل (بوابة الجحيم)، وإنْ قدَّم بعد فراقهما أحد أجمل أجزائها وأجمل أعماله من خلال “أوغولين” 1904، كما نلاحظ أن وتيرة أعماله تباطأت إلى حدٍّ كبير في حين أنه ما إن تخلّى عنها حتى هاجمتها الوساوس والهلوسة، فعزلت نفسها عن العالم الخارجي، وحطّمت معظم منحوتاتها، واتهمته أنه يحاول سرقة أعمالها، وتسميمها، لأنه يخاف أن تصبح أكثر أهمية منه خلال حياته وبعد موته.

لم تستطع عائلتها تحمل الفضائح وهلوساتها، فبعد أسبوعٍ من وفاة والدها الذي كان يؤمن بعبقريتها؛ أدخلتها أمها وأخوها ملجأ للأمراض العقلية، وظلت في الملجأ آخر ثلاثين عامًا من حياتها، لم تزرها أمها ولا مرة، في حين زارها أخوها الشاعر “بول الصغير” -كما كانت تناديه- تسع مرات، ورفض بعد سبع سنوات من وجودها في الملجأ إخراجها منه، على الرغم من الرسالة التي كتبها الأطباء له يعلمونه -في الوقت الذي بدأ يلمع صيته في فرنسا- أن أخته لا تحتاج إلى عناية صحية، وأنها تجاوزت أزمتها النفسية.

وعلى الرغم من كل استنجاداتها، فإن شهرته وغيرته وخوفه من مستقبل “كلوديل” الواعد، دفعت بول إلى تجاهل إخراجها من المصح العقلي. صحيح أن شقيقها كتب الكثير حول حبه لشقيقته، وكيف كانت تدمع عيناه من الألم، أمام الحال الذي تعيشُه، لكن الصحيح أن “بول المتدين” كان يرى أنّ الله هو من منحها عبقريتها، وهو من غلّ يدها، وأن عليها أن تقبل ذلك تكفيرًا عن خطاياها. لذلك، لم يزرها خلال ثلاثين سنة إلا 13 مرة، ولم يلتفت إلى نجدتها، حتى بعدما نحت صوتها رخام المصح.. أرضه، باحته، وجدرانه.

هكذا ماتت كاميل في الملجأ عام 1943، ولم يحضر بول جنازتها، ودفنت في مقبرة عمومية، ولم يتم العثور على جثمانها. لكنها تركت لنا منحوتات حب عذّبها حتى لحظاتها الأخيرة، هي التي تنبأت بذلك العذاب بعبارتها التي نحتت على واجهة أحد فنادق ستراسبورغ: “يعذبني –دائمًا- شيء ما غائب”. عبارة تختصر حياةً مليئة بأجواء من القهر والهلوسة والخذلان. تلك الأجواء التي تجسدت –ربما- بمنحوتتها الشهيرة (عصر النضوج) والتي تصرخ فيها بكل مكنونات قلبها الكسير، وشبابها الضائع أمام الموت.


سوسن سلامة


المصدر
جيرون