(واقعية سياسية) أم سقْطة أخلاقية



لم يكن مصطلح (الواقعية السياسية) الذي أطلقه ستيفان دي ميستورا، في السادس من أيلول/ سبتمبر الماضي، مجرّدَ إيحاء لنظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين بنجاعة الحلّ الأمني والعسكري فحسب، وكذلك لم يكن مجرّد زلّة كلام تنمّ عن سقْطة أخلاقية كبيرة، بل كان ناكزًا أيضًا للعديد من أصحاب المواقف والشعارات العائمة التي ما زالت –بعد ست سنوات خلت من عمر الثورة– تهرب أيّما هروب من الوقوف في ساحة الضوء، وتُؤثر الاختباء في المساحات الضبابية، والتعبير عن ماهيتها بعبارات عائمة قابلة للمزيد من التأويل والتفسير.

لا شكّ أن التعقيد الهائل في سيرورة الثورة السورية أتاح مناخًا ملائمًا لأصوات ظلت مبهمة إلى حين قريب، إلّا أن هذا الإبهام سرعان ما بدأ يفصح عن ذاته، ولكن ليس بعبارات ومعانٍ خجولة ومغلّفة بقليل من الغموض، بل بسفورٍ ممهور بواقعية دي ميستورا، ومُتسلِّحٍ بذرائع مستمدَّة من واقع أنتجه خصوم الشعب السوري. ولو كانت هذه الأصوات منحازة منذ انطلاقة الثورة إلى نظام الأسد وأعوانه؛ لكان الأمر أقلّ إيلامًا، ولكنها مكثت طويلًا في صفوف (المعارضة الرسمية)، وأنشأت لنفسها كيانات واتخذت ألقابًا، ثمّ سعت جاهدةً إلى بلورة خطابٍ سياسي يكتسي بمفردات الثورة، ولكن لا يفارق مضمونه وقاحة كلام بشار الجعفري ولا بلادة وليد المعلم.

وما يدفع هذه الأصوات إلى التسارع بالظهور كثرة الإيحاءات الدولية والإقليمية بأن الحرب في سورية قد شارفت على نهاياتها، وأن المستقبل السياسي لسورية سوف يحدّده الواقع الميداني، أو خريطة مواقع النفوذ الراهنة على الأرض السورية، حيث استطاع نظام الأسد -بدعم روسي إيراني- استعادة السيطرة على مساحات كبيرة من المناطق المحررة، وها هم الروس ينفردون في هندسة حل سياسي، وفقًا لرؤيتهم التي تتماهى مع بقاء نظام الاستبداد، وذلك في ظل غياب موقف أميركي فاعل حيال القضية السورية، بالتوازي مع توافقات المصالح الإقليمية والدولية التي ساهمت في احتواء المقاومة المسلحة حينًا، وبعثرتها وتشظّيها حينًا آخر، وبالتالي ليس على الجغرافية السورية سوى قوتين كاسحتين: النظام مدعومًا بحلفائه الروس، و(قوات سورية الديمقراطية) مدعومةً بالولايات المتحدة الأميركية، وما سوى ذلك من قوى لا تعدو كونها جيوبًا أو بؤرًا لا تقوى على حيازة أي مساهمة في تغيير ملامح الصراع، فلا بدّ إذًا من الانحياز لإحدى القوتين –وفقًا للأصوات سالفة الذكر- (الأسد وحلفاؤه أو حزب الاتحاد الديمقراطي pyd وداعموه الأميركيون)، فالقضية –بالنسبة إلى أصحاب المواقف الخارجة من ضبابيتها- هي قضية حربٍ اشتعلت على الأرض السورية، ومن يكسب جولاتها ويتسوّد المشهد عسكريًا، فسيكون هو صاحب الحق، ولا يجب التسليم بتفوّقه عسكريًا فحسب، بل يجب الإقرار بصوابية سلوكه والنتائج التي وصل إليها، هذا ما تفصح عنه بيانات صادرة عن أطراف كانت تعدّ نفسها في عداد المعارضة، تثمّن هذه البيانات انتصارات جيش الأسد على تنظيم (داعش) الإرهابي، وتبارِك له فتوحاته العظيمة في مدينة (الميادين)، وكأنّ جيش الأسد وملحقاته الطائفية لم يكن هو من قتلَ مئات الآلاف من السوريين، بأشدّ الأسلحة فتكًا وقذارة، وهجّرَ الملايين، واقتلعَ أمثالهم من بيوتهم! إن مجرّد (اقتراب الحرب من نهاياتها) جعل جيش الإجرام الأسدي جيشًا وطنيًا؛ ومحا تمامًا الحقيقة التي لم تعد تثير الجدل، بأن هذا النظام مدين في بقائه –بدرجة كبيرة – إلى وجود (داعش) ومشتقاتها على الأرض السورية.

مشروعان عسكريّان يتسوّدان بل يتنافسان -آنيًا- على الأرض السورية، (النظام وحلفاؤه – قسد) الأول هو خصم لدود للشعب السوري، والثاني لا علاقة له بثورة السوريين، بل آثر منذ انطلاقة الثورة العملَ وفق أجندته الخاصة، متجاهلًا جوهر المشكلة في سورية وهي نظام الاستبداد الأسدي، وطالما أن الصراع لم يُحسَم بعدُ لصالح إحدى هاتين القوتين، فلا بدّ من الوقوف على مسافة واحدة منهما، باعتبار أن كليهما يقاتل الإرهاب، ولهذا السبب كانت البيانات (المبارِكة) حريصةً على الإشادة بتحرير الرقة وطرد (داعش) من الميادين في آن معًا.

هذه المواقف المتصاعدة من شرنقتها، والمتنامية على مأساة السوريين، والخاذلة لتضحياتهم تتغذّى اليوم من معين خصب، مبعثُه الواقع الميداني المستباح دوليًا وإقليميًا، وكذلك المشهد السياسي السوري الذي صادرته كيانات ادّعت تمثيل ثورة السوريين، ولكنها اكتفت بمهماتها الوظيفية واستلذّت ارتهاناتها الخارجية؛ فكانت وبالًا على السوريين وثورتهم، وبات الحديث عن العقم السياسي المزمن في مفاصل الثورة، وكذلك الواقع الميداني المتردي للفصائل العسكرية ينزاح شيئًا فشيئًا؛ ليتحول من نقد وتشهير بالقوى والأطراف التي خذلت الثورة، إلى الى ماهية الثورة ذاتها، كما بات الشك بشرعية الثورة وعدالة القضية السورية السبيل الأمثل – لدى هؤلاء– للوصول إلى (الواقعية السياسية) التي أطلق شرارتها دي ميستورا، ولكن كوامنها كانت موجودة في نفوسهم مسبقًا.

لعلّ نظام الأسد كان شديد الانسجام مع ذاته، حين أكّد أكثر من مرّة على لسان مسؤوليه بأنه لن يعير أي وزن أو اهتمام لأي قرار دولي أو وازع إنساني آخر سوى نهج (الهدن المحلية) التي تفضي إلى التهجير القسري واقتلاع المواطنين من بيوتهم وبلداتهم ومدنهم واستبدالهم بمجتمع (متجانس) أكثر تماهيًا مع السلطة الراهنة، ولا أحد يعتقد أن الأوصياء الروس أو الإيرانيين ينظرون إلى أبعد من ذلك، وعلى الرغم من كل هذا، تجد أن عبارات الحكمة المُبطّنة بالخبث لا يوجهها قائلوها للجلاد بل للضحية: (اقبلوا بما يُقسم لكم، حقنًا للدماء.. لنحافظ على ما تبقى من سورية.. لنحرص على وحدة الأرض السورية.. إلخ) وما سوى ذلك –وفقًا لهؤلاء– هو ضرب من المزايدات وبعدٌ عن الصواب والمنطق والواقعية، وكأن الضامن الحقيقي لحقن الدماء ووحدة الأرض ومستقبل البلاد هو نظام (الكيمياوي) والبراميل، والسجون المكتظة بعشرات الآلاف من السوريين.

ما من شكّ أبدًا في أن المسار المتشعّب للثورة السورية قد أظهر هشاشة في مقوّماتها السياسية والعسكرية؛ الأمر الذي انعكس بشدّة على تجلياتها ومآلاتها الراهنة، ولكن هذه المآلات على الرغم من إيلامها ومرارتها، فإنها تكشف عن التوهّج الأخلاقي والقيمي الكبير لهذه الثورة التي ستنتصر بحواملها الثقافية والقيمية، وليس بإرهاصاتها السياسية فحسب.


حسن النيفي


المصدر
جيرون