المهرجانات الفنية واجترار الذات



ليس جديدًا القول إن المهرجانات الفنية في العالم هي تتويج لحراكات فنية، تسبق الاحتفال بها، فهي احتفالٌ بمنجزات، تلقاها الجمهور وتفاعل معها، وربما قيمها النقاد والمهتمون؛ فكان مكانها للاحتفال أو المنافسة هو المهرجان. والمهرجانات الفنية متنوعة من مسرح وسينما وشعر وقصة وغيرها.

في العالم العربي، المهرجانات ليست كذلك، وربما لا تمت إلى نوعية المنتج، بقدر ما هي مجرد سلسلة من العلاقات العامة والخاصة والشللية، والبروباغندا الفارغة فنيًا وثقافيًا، للدولة ونظامها.

مهرجانات بلا حراك فني وأدبي، وبلا أجواء تنافسية، على قدر اسم الإبداع ونوعه، ولا هي تنافسية شريفة عادلة.. هي جمهرة ولقاءات، وكثيرًا ما تكون بلا جمهور وبلا متعة، سوى الرحلات والسياحة المبرمجة السمجة.

المهرجانات الفنية من وظيفتها أن تعكس وجه البلد الضيف والمضيف ثقافيًا وفنيًا، وتكون صورة صادقة عما يجري من نتاجات فنية وعمق إبداعي وحضاري وثقافي، فحين نشاهد مهرجانًا ما، “الأوسكار الأميركي” على سبيل المثال لا الحصر؛ يقدم لنا المهرجان بانوراما عن السينما الأميركية وما توصلت إليه من إبداع، على صعيد المحتوى والشكل والرؤيا، ويقدم مساحة واسعة من القدرات المختلفة للمركب السينمائي برمته، من إخراج وسيناريوهات متعددة الأساليب والفلسفة، ويقدم لنا طرائق جديدة مبدعة للصناعة السينمائية بكامل تفاصيلها وجديدها وإدهاشاتها المستحدثة فكريًا وفنيًا وتكنولوجيًا. ويتم التنافس السينمائي بقدرات تجديدية كأي صناعة، أو اختراع منتج جديد.

بينما نرى في مهرجانات السينما والمسرح العربية وغيرها، تدخّل الدول والشللية والتدليس وتبادل العلاقات المشبوهة، وتكون الدول العربية، بوزاراتها الثقافية الموجهة لبروباغندا الدولة المريضة، بما تحتويه من تضليل وتزوير للحقيقة والجمال، وتساهم نقابات وفرق فنية وشركات ونجوم، لتكتمل اللعبة، في تغييب الواقع، وتحويل المهرجان، بشكل ما، خارج وظيفته الإبداعية الفنية، ويتحوّل إلى بؤرة إحباط للفنان المبدع، المبعد عنه في الأساس والمحروم من المشاركة فيه.

في المهرجانات تجد عدة سلطات، غير سلطات الدول المشرفة والراسمة لسياسة المهرجانات، تجد سلطة الفرق الفنية الزائفة، وسلطة اللغات الفنية البائدة، وسلطة النقاد الهرمين غير المتجددين، وسلطة رجالات الدول في الفن، وتجد الأمن الفعلي والذهني، والممنوعات الدينية والسياسية، وما يسمى الأخلاقية.

يغيب الفنان الحر والفن الحر والطليعية الفنية Avant-garde، وثمة مؤسسات تتحكم بالمهرجانات الفنية، لا تقل رجعية وتخلفًا عن مؤسسات الدول، تروج الفن الركيك، وتتحكم بالهبات والأعطيات، والجوائز. فبدل أن يكون المهرجان الفني والإبداعي مساحة تعبير جديدة وجريئة؛ يتحول المبدع إلى فنان تم تكيفه من أجل ذلك المهرجان.

في المسرح، يفضل عدد الممثلين الأقل والديكور الأفقر، كي يتم التجوال وتقليل التكلفة، فيصبح ألف رقيب في الرأس، رقيب إنتاجي، رقيب أخلاقي، رقيب سياسي، وهكذا حتى يصبح المهرجان وفكرته تخريبًا للإبداع والفن عمومًا.

أما على صعيد الحراك النقدي والمعرفي الذي يثري الفعل الفني للمهرجان، فهو غائب بأشكال عدة. فلا يتم استحضار أو دعوة من يستطيع الإثراء، وإذا حضر؛ ألقى معرفته على عدد يساوي أصابع اليد من الحضور، حيث الجميع خارج المهرجان يتعرّف سياحيًا على مدينة المهرجان.

بقي شيء مهم أريد ذكره، وهو أن المهرجانات المتخصصة، كالمسرح والشعر والأدب والسينما والموسيقى، لا تنتبه إلى التخصصات المغايرة لنوع المهرجان، كي تثري الفنون بعضها البعض، وكي يسمع المسرحي للسينمائي، والعكس أيضًا، ولكي يتم تبادل المعرفة مع مبدعين في فنون أخرى.

المحصلة: المهرجانات صور مماثلة للتردي الفني والفكري والمعرفي المحلي لكل بلد، يتم الاحتفال بها لإعادة إنتاجها وتعميمها، وجعل الرديء سائدًا، وكأنه القدر المحتوم. ويتم إبعاد الفعل الفني الأكاديمي والإبداعي والمعارض السياسي على حد سواء.

تتكرر الوجوه، ويتحول المهرجان إلى قبيلة تتناسل كل عام، وعلى مدى سنوات ينتابك شعور بأن الفن لا يولد إلا من رحم هذه الوجوه التي تواطأت مع الفعل الثقافي للدولة الهزيلة والمستبدة والجاهلة.

* اللوحة للفنان السوري دلدار فلمز


فيصل الزعبي


المصدر
جيرون