فزغلياد: من هو الكبير في أميركا



الصورة: إيفان فوتشي/ تاس/ وكالة أسوشيتد برس

بعد مرور عامٍ كامل، تبقى مشكلة جميع شركاء الولايات المتحدة الأميركية، في عدم وجود أي تصورٍ لديهم عمن يحدد سياسة واشنطن. وعلى الأرجح، سيلجأ حلفاء الولايات المتحدة الأميركية القدامى إلى طريقةٍ مجربة لمعرفة ذلك.

مرت بلادنا في تاريخها الحديث بمرحلةٍ غير مريحةٍ بالنسبة إلى غالبية المواطنين، مرحلةٍ مليئةٍ بالتناقضات، عندما كانت “الإمبريالية العالمية” تتهاوى، في حين لم يكن “الاقتصاد الجديد” يجلب لغالبية الشعب شيئًا سوى الآلام.

الآن، تُطلق شتى المصطلحات على تلك الفترة. فالبعض يسميها “التسعينات العاصفة”، والبعض يدعوها بـ “الرأسمالية المتوحشة على الطريقة الروسية”، والثالث يدعوها بمرحلة “الخيانة”، “الكارثة”، “الاستسلام”، وبغيرها من الكلمات النابية. ولكنها كانت للبعض “جرعة حقيقية من الحرية”، وما إلى ذلك.

من منظور العقد الأول من الألفية الثالثة، يُنظر إلى أحداث تلك السنوات نظرةً فلسفية. نعم، كانت كارثة جيوسياسية وانهيارًا اجتماعيًا اقتصاديًا كاملًا. كما كانت عرسًا لحرية الكلمة. وفي الوقت نفسه، فوضى في القانون. ولكن المشكلة الأساسية لم تكن في هذا. حينها لم يكن أحدٌ يفهم من هو كبير البلاد.. من يحكم.. وبشكلٍ أكثر دقةٍ، من يحاول أن يحكم هذه البلاد الشاسعة، ومن يرسم التوجه السياسي لها. ولمن سيكون المستقبل في هذه الدولة؟

كانت في روسيا العائلة. وكان المرحوم بوريس بيروزوفسكي وسيرغي كيريينكو. كان شوباس وكورجاكوف. كان تشيرنوموردين. كان الشيوعيون، وكانت جماعة البنوك السبعة. كان المجتمع منقسمًا، وكان خط الانقسام يمر بحدود المناطق والأقاليم، بعمر المواطنين ومستوى دخلهم، بمستويات التعليم وبمجالات التعليم والمرضى النفسيين. كان العقل الاجتماعي منقسمًا إلى شطرين متساويين تقريبًا. كما كانت وسائل الإعلام منقسمة بالتساوي، ومن ضمنها التلفزيون. ولم يكن أحدٌ يعرف إلى أين ستقودنا طريق التاريخ الملتوية.

بالمناسبة، التاريخ  هو على الدوام أفقٌ بعيد؛ فالناس الذين يعيشون اليوم وفي الغد القريب، كانوا مهتمين بسؤالٍ محددٍ واحد: من يحكم؟ لمن المستقبل القريب القادم؟ من الأقوى ومن سينتصر في نهاية الأمر؟ في ذلك الوقت كان سكان أميركا ينظرون إلينا نظرة استعلاء؛ إذ كانوا يملكون الاستقرار والوراثة (هكذا بالضبط كانت وسائل الإعلام الأميركية تقول عنها). كان كل شيءٍ واضحًا عندهم.. أما الآن، فما هو الوضع؟

منتصف العقد الثاني، جاء دور الأميركيين ليعيشوا فترة عدم اليقين. في فترة ضياعنا، كانوا ينظرون إلينا نظرة يملؤها شعورٌ بالتفوق يشوبها شيءٌ من القلق. التفوق لأنهم كانوا يرون ويعرفون طريقهم للعقد القادم. والقلق لأنه لا أحد يعرف كيف ستتصرف تلك البلاد التي تخنقها أزمةٌ عميقة، والتي تمتلك في الوقت نفسه قوةً نووية هائلة. ولهذا كانوا يراقبون: من سينتصر، ومن سيُبعد مَن، وأي وجهة نظرٍ هي التي ستحدد السياسة الداخلية والخارجية للبلاد.

أما خبراء الشؤون السوفيتية (والذين تحولوا بسرعة إلى خبراء بالشأن الروسي) فقد سُرّحوا؛ وكل شيءٍ غدا واضحًا الآن. في حين كان المستقبل يزخر بالمفاجآت، وإن كان أحدٌ ما، في الولايات المتحدة الأميركية عام 1996، يراقب بوتين ورفاقه، فقد كانوا قلةً يعدّون على أصابع اليد. الآن، حان دورنا لنراقبهم.

فجأةً، اكتشف مواطنو الولايات المتحدة الأميركية أنهم لا يعيشون أبدًا في بلادٍ معافاة. في أوهايو، ميشيغان، بنسلفانيا، يوتا، كارولينا الشمالية وغيرها من المناطق، يعلو الصدأ الآلات الزراعية، وتغلق المصانع. الكبار يعاقرون الخمر، بينما يدمن الشباب على المخدرات. فالدولة المنتصرة (في الحرب الباردة) أصبحت -بالنسبة إلى مواطنيها- بلدًا تائهًا ومدمرًا. في تلك الظروف، جاء ترامب، “وحيد قرنٍ” ينطح الـestablishment ، ويتهمها بالفساد والجمود. كان يحضر اجتماعاته الآلافُ من المؤيدين. انتصر في الانتخابات؛ و …. سقط في “مستنقع واشنطن”.

نصف وعوده الانتخابية لم تتحقق بعد؛ ويطالبه نصف الأميركيين بالتقدم إلى الأمام بثبات، بينما يطالبه النصف الآخر بالاستقالة. ظهر حول ترامب مختلف الأصناف -من حيث العقيدة ومن حيث المنشأ- مراكز القوى. فلديه العائلة التي تمثلها ابنته الكبرى وصهرها. وحوله الإصلاحيون المتعطشون لإجراء تغييراتٍ جذرية، وحوله رجال الأجهزة الأمنية و”الخبراء المحترمون”، وبالطبع الشخصيات الإعلامية.

باستخدام خبرتهم المتراكمة وعلاقاتهم داخل الجهاز؛ استطاع البيروقراطيون إبعاد أكثر الإصلاحيين غيرةً وحماسًا عن أولمب السلطة. وتوارت العائلة مؤقتًا في الظل، بينما تمكن البرلمان، عبر قوانينه وتشريعاته، من تقييد يد رأس السلطة، ولم يتح له الحركة. غير أن المتمردين الذين أُعفوا من مناصبهم لا ينوون الاستسلام البتة، فهم يقولون للبيروقراطيين: “نحن ندعم الرئيس، ولكننا سنسحق من يحيط به، وسنرسل إلى الجحيم برلمانكم الذي لا يصلح لشيءٍ”. يرتجف البرلمانيون، و”الرجال الموقرون” يخافون، والعائلة مضطربة، أما المجتمع الدولي فيخمن كيف سينتهي كل هذا، ويتساءل: إن كانت حربٌ نووية شاملة ستندلع بسبب الخلافات الداخلية، في هذه الدولة العظمى.

اصطفاف القوى في الولايات المتحدة الأميركية عام 2017، يبدو على النحو الآتي: العائلة، ابنة الرئيس إيفانكا وزوجها جارد كوشنر، رجال الأجهزة الأمنية والبيروقراطيون، مستشار الأمن القومي الجديد غيربرت ماكماستر، رئيس الإدارة جون كيللي، والمنضمون إليهم من “مجموعة الراشدين”، كما يسمونهم في أميركا. البرلمان هو الكونغرس، الذي أقسمت الغالبية الديمقراطية فيه على التصويت لصالح مشاريع القوانين الرئيسية التي يقدمها الرئيس الـ 45 ، ولكنها لم تقدم على هذه الخطوة حتى الآن.

وزارة الخارجية الأميركية مشلولةٌ تمامًا

رأس الوزارة تابِعُ ترامب الأمين، ربما أراد تطبيق سياسة خارجية واضحة، لكنه وجد نفسه بين نارين: رئيس يختلف معه على الدوام، وكونغرس يريد منه تقديم استقالته.

يتزعم الإصلاحيين العنيدين مستشارُ الرئيس السابق للشؤون الاستراتيجية ستيفن بينون. عند خروجه من الإدارة، بعد تضييق “الراشدين” الخناق عليه، توعدهم بمتاعب سيئة، وكذلك توعد البرلمانيين الذين خانوا الرئيس برأيه. في البداية أُخذت التهديدات على محمل الجد. فقد توقع الجميع أن بينون سيعود إلى العمل مع الصحيفة الإلكترونية Breitbart التي لعبت دورًا كبيرًا في مجرى حملة  ترامب الانتخابية، وأنه من هناك، سيصب نار انتقاداته على زملائه السابقين وعلى أعضاء الكونغرس. غير أن ستيفن ذهب أبعد من ذلك. فقد قرر، أنه طالما يقوم على الحزب الجمهوري (الذي مثله ترامب للوصول إلى الرئاسة) رجالٌ “خانوا برنامج الشعبوية” و”غدروا بمن انتخب ترامب”، فإنه يجب إخراجهم من اللعبة.

انضم إلى جانب مستشار الرئيس السابق كلّ مَن دعم دونالد الكبير، منذ بداية حملته الانتخابية: التقنيون السياسيون، الكتاب المحافظون، سياسيو ورعاةُ الحركات المحافظة. بين هؤلاء مستشار الرئيس السابق سيباستيان غوركا، حاكم ولاية ألاسكا السابق سارة بيلين، المحلل السياسي مارك ليفين، مدير قناة (فوكس نيوز) شون هينيتي، مؤسس الشركة العسكرية الخاصة Black water إريك برينس، الكتاب السياسيون إين كويلتر، ولورا إينغرام، وكذلك منتج البرامج الإذاعية راش ليمبو.

نهاية شهر أيلول، دعمت هذه المجموعة، في الانتخابات الأولية للكونغرس عن ولاية ألاباما، المرشحَ المحافظ الموالي لترامب روي موور، الذي فاز بسهولةٍ على مرشح قادة الحزب لوثر سترينج، تابع زعيم الأغلبية في المجلس ميتش ماكونيل. مخططات بينون لعام 2018 تغطي 15 ولاية على الأقل، حيث ستجري انتخاباتٌ جزئية لإعادة انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ.

بداية أكتوبر، قال ستيفن في كلمةٍ موجهةٍ عبر الأثير من Fox News إلى مؤسسات الحزب الجمهوري: “لا أحد منا في مأمن. سنأتي إلى كل واحدٍ منكم، وسننتصر”. مستندًا إلى نفوذ غيريك بينس، أضاف ستيفن: “من تبرع لهم ينتقل إلى جانبنا… وقواعد اللعبة تتغير. سنقطع الأكسجين عن ميتش ماكونيل”. جاءت ردات فعل الوسط السياسي الرفيع، على تصريحات بينون النارية، باهتةً بشكلٍ مفاجئ. وحده السيناتور بوب بوركر، الذي سبق أن أعلن أنه لن يترشح لفترة ثانية في عام 2018، أدلى بتصريحين فاضحين عبر (تويتر)، ودخل في مبارزةٍ مع الرئيس.

حصل ستيفن بينون على دعم العديد من قواعد الحركات المحافظة. ومن ضمنهم حركة (الاتحاد من أجل أميركا عظيمة) ذات النفوذ، والتي يترأسها موظف الإدارة السابق رونالد ريغان إدرولينز، وكذلك منظمة (الوطنيون في حزب الشاي) التي انتقلت إلى صف “الشعبويين”. تتوسع لائحة “مرشحي بينون” مع مرور كل يوم. وبحسب التصنيفات، ليس هناك أي سيناتور من الـ establishment خارج دائرة خطر فقدان موقعه.

اتضح، مع نهاية الأسبوع الماضي، أن عائلة ترامب تتعاطف هي أيضًا مع المتمردين، أو أنها على الأقل لا تريد الصدام معهم. واستنادًا إلى مصادرها الخاصة، أعلنت صحيفة Politico  أن صهر الرئيس جارد كوشنر كتب إلى ستيفن بينون رسالةً، هنّأه فيها على خطابه الجريء والحازم على أثير Fox News  .

من جانبٍ آخر، تحدثت وسائل الإعلام عن استقالةٍ قريبة لرئيس إدارة البيت الأبيض جون كيللي، وكذلك زميله في “مجموعة الراشدين” غيربرت ماكماستر، الذي تسلم مكتب الأمن القومي بعد استقالة مايكل فلين. اضطر كيللي إلى أن يتحدث خلال الإيجاز الصحفي نافيًا الإشاعات المتعلقة بوضعه المشين. في كل الأحوال، أخذ الجميع تهديدات المستشار الاستراتيجي السابق لترامب على محمل الجد.

من الصعب الحكم على مدى نجاح الهجوم  الجديد الذي يشنه بينون على واشنطن، كما يصعب التنبؤ بتأثيره على ترامب ومحيطه الحالي. أمرٌ واضحٌ تمامًا: الحالة الراهنة تحطمت من جديد، ولهذا ما زال الوقت مبكرًا لتحديد المنتصرين حقًا في الصراع السياسي الدائر، وفي صفوف الجهاز الإداري في واشنطن.

تكمن مشكلة جميع شركاء الولايات المتحدة الأميركية، بعدم وجود تصورٍ، مهما كان ضئيلًا، عمن يحدد بالفعل سياسة واشنطن، بعد مرور عامٍ على تنصيب ترامب. في الغالب، سيلجأ حلفاء واشنطن القدامى إلى استخدام وصفةٍ مجربة: سيمدون جسورًا مع الجميع.

في هذا الوضع، كيف ستتصرف روسيا؟ هل تتقيد بمبدأ “التعاون مع أي رئيسٍ للولايات المتحدة الأميركية”؟ وهل سيعتمد الكرملين ووزارة الخارجية الروسية على التوقعات بأن “سياسة الولايات المتحدة لا تتغير”، تلك التوقعات التي تشبه تمامًا التنبؤات الأميركية في التسعينيات حول “حتمية اختيار روسيا لطريق الديمقراطية-الليبرالية”؟ أم أن تكتيكاتٍ جديدة ستظهر أخيرًا في جعبة سياستنا الخارجية؟

لا يجوز لروسيا الانتظار حتى تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، في ترقب انتهاء فترة عدم اليقين، التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية. من الضروري الاستعداد لكل الاحتمالات التي يمكن أن تتطور الأحداث وفقها، بما في ذلك الاحتمالات التي يتراءى لنا اليوم أنها غير ممكنة.

اسم المقالة الأصلية Кто в Америке главный? كاتب المقالة ديمتري دروبنيتسكي مكان وتاريخ النشر فزغلياد. 16.10.2017 رابط المقالة https://vz.ru/columns/2017/10/16/891058.html ترجمة سمير رمان


سمير رمان


المصدر
جيرون