في تبعيّة القرار العربي



من أهمّ ما طرحته الثورة السورية، وهي تكشف مختلف الأغطية عن سَوْءات الواقع السوري خصوصًا والعربي عمومًا، كان التساؤل عن صناعة القرار في كل بلد عربي: هل القرار العربي في شؤون السياسة الخارجية والداخلية مستقلٌّ تمام الاستقلال؟ أين، وكيف يُصنع القرار الذي يوقع عليه الحاكم العربي اليوم؟ ما مدى استقلاله، وإلى أي حدٍّ ينسجم مع المصالح الوطنية ويستجيب إلى متطلبات الإرادة الشعبية العامة؟

ذلك أن العالم العربي عاش سنوات ربع القرن التالي على نهاية الحرب العالمية الثانية مختلفَ معارك الاستقلال السياسي ثمَّ، وبصورة خاصة، معارك امتلاك القرار الوطني المستقل. ولقد دفعت الشعوب العربية لقاء محاولات الانتقال من الاستقلال السياسي إلى استقلال القرار الوطني ثمنًا باهظًا على كل صعيد. ولم يكن بين بعض أهداف حروب (إسرائيل)، ولا سيما في عامي 1956 و1967 بوجه خاص، إلا الحيلولة دون القدرة على اتخاذ أي قرار سياسي يمثل الإرادة الشعبية الحقيقية، ويجسِّدُ الاستقلال الحقيقي.

ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي، تراجعت هذه الإرادة السياسية تدريجيًا لدى حكومات الدول العربية التي خاضت تلك المعارك ولا سيما مصر، تحت وطأة الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ وبات كل قرار مصيري يشي بصانعه أو بمصدره أو بمن فرضه. ولم يتضح ذلك في عالمنا العربي مثلما اتضح خلال السنوات الست الماضية.

إن أول ما يتبادر إلى الذهن، في هذا الصدد، تباين مواقف كلِّ واحدة من بعض حكومات الدول العربية إزاء كلِّ واحد من الحراكات الثورية التي انطلقت بصورة متزامنة، قبل نيف وست سنوات في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن. فقد كان هذا الاختلاف في موقف هذه الدولة أو تلك من الثورة في تونس أو في مصر من ناحية، وفي موقفها من الثورة في سورية أو في البحرين، يثير الشك في صدقية قرار الوقوف مع الثورة هنا أو ضد تلك الثورة هناك. إذ لم يشهد العالم العربي، خلال ما يقارب أربعين عامًا من الكمون، مثل هذا التناغم في المطالب وفي طبيعة الحراك وفي الأهداف المعلنة. ومع ذلك، وعلى غرار إيران بالرغم من الاختلاف العميق عنها في الدوافع والمقاصد؛ رحَّب البعض بالحراك في تونس وفي مصر وأدانه البعض الآخر، أو استنكر هذا الحراك في تونس ومصر والبحرين والبحرين، ورحب به في سورية وفي اليمن. هذا في الوقت الذي كانت فيه شعوب العالم -لا حكوماته بالضرورة- تقف مذهولة أمام ما كان يجري في هذه البلدان، خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2011، ودلالاته التاريخية قبل أن تنقضَّ عليه أفاعيل الثورة المضادة، بصورة أو بأخرى، في معظم البلدان المشار إليها، وتحيله إلى دمار مبرمج للبشر وللحجر في سورية.

إذا كان من الممكن فهم أو تبرير تباين المواقف، بين الدول التي تلافت على عجل كل حراك نذير بها إزاء هذا الحراك الثوري شبه العام؛ فإن ما لم يكن مفهومًا هو أن تقف هذه الدولة أو تلك مواقف مباركة للحراك هنا ومندّدة بمثيله هناك. ومع ذلك، بدا أن القوى التي تصدت من بعد لتمثيل الحراك الثوري في البلدان المعنية قد غضت النظر عن مواقف هذه الدول، لا سيّما حين بدأت هذه الأخيرة تبدي اهتمامًا غير عادي بما يجري، بلغ حدَّ التدخل مباشرة وميدانيًا، من دون أي تنسيق أو تفاهم فيما بينها، سواء في توجيه مختلف الهيئات التي تصدت للقيادة أو للتمثيل، أو في اعتماد ودعم بعض القوى شبه العسكرية التي كانت تتكاثر كالفطر في طول البلاد وعرضها، بما يتيح لها امتلاك القدرة الفعلية على توجيهها حسب خططها الخاصة بها. كانت هذه التدخلات، وهي في معظمها من وراء ستار، تقوم في آن واحد بدور ثورة مضادة غير معلنة، وبدعم غير مباشر للنظام الذي لم يسقط بفعل ما كان يلقاه من حليفَيه الإيراني والروسي، وكل ذلك باسم دعم الثورة السورية ضد النظام الأسدي الذي يجب أن يتم إسقاطه سلمًا أو حربًا، كما كان يصرّح، بلهجة حاسمة، أحدُ وزراء الخارجية العرب؛ كلما سُئل عن مصير الأسد.

لقد بدا بالفعل قبل سنتين أن إرادة الدول الغربية الكبرى تميل إلى إسقاط النظام الأسدي؛ وكانت بعض الأسماء البديلة مطروحة على موائد المباحثات السرية وغير الرسمية في باريس ولندن. لكن سرعان ما أرغمت العمليات الإرهابية باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 على أن تستبدل أولوياتها بخصوص إسقاط النظام الأسدي، وتبعتها لندن من بعدُ، كي ينسجما في موقفيهما مع موقف واشنطن شكلًا ومضمونًا. تزامن ذلك مع صدور قرار مجلس الأمن 2254 في كانون الأول/ ديسمبر من العام المشار إليه، وباتت التسوية السياسية بقيادة روسيا قرارًا دوليًا والمرجعية الأخيرة وشبه الوحيدة التي وجب على بقية الدول الإقليمية أن تتكيف معها.

في تحليل المواقف من طبيعة ومآل هذه التسوية؛ يمكن أن تتضح طبيعة القرار السياسي ومدى استقلاله أو تبعيته أو امتثاليته لدى كل من الدول المعنية أو المنخرطة بهذا القدر أو ذاك، بما صار يسمى “الأزمة السورية”، ولا سيما منها الدول العربية. فقد بات واضحًا أن التسوية السياسية لا تقتضي بالضرورة، أو لن تؤدي إلى، تنحية رأس النظام الأسدي عن الحكم. كما أن أستانا استبدلت بجنيف مثلما استبدل القرار 2254 حسب التفسير الروسي كمرجعية ببيان جنيف الأول عام 2012. ذلك ما يشهد على ويؤكد غلبة الإرادتين الروسية والإيرانية اللتين لم تتراجعا في أي لحظة عن تمسكهما بالنظام الأسدي وبرأسه تحديدًا، ما دام يخدم مصالحهما المعلنة والخفية. تبعًا لذلك، كان على تركيا أن تقوم بانعطافة كاملة في هذا المجال بعد أن ضمنت حرية العمل بكل الوسائل الممكنة، من أجل الحيلولة دون قيام دولة كردية على حدودها. أما الدول العربية المنخرطة بصورة أو بأخرى في سورية، فقد وجدنا أن “الواقعية السياسية”، من وجهة نظرها، سرعان ما دفعتها إلى التماهي مع الموقف الذي بات دوليّا، واقعية تقتضي -أو ترغم على- القبول بما كان محّرّمًا من قبل: بقاء الأسد على رأس السلطة في أثناء المرحلة الانتقالية.

لا يمكن للقرار الوطني أن يكون مستقلًا، إن لم يصدر عن دولة تملك مصيرها ومصير شعبها. ولا يمكن لأيّ دولة امتلاك هذا المصير، إن لم تمتلك وسائل حمايته التي تتمثل باستقلال سياسي تدعمه قاعدة اقتصادية قوية، ونظام حكم تمثيلي يؤدي وظيفته بالإرادة الشعبية التي جاءت به، والتي تحميه في مواجهة أي قوة خارجية تريد النيل منه أو ومن قراره.

هل نجد مثل هذه الدول في عالمنا العربي؟ وهل يمكن اعتبار أي قرار يصدر عنها قرارًا وطنيًا مستقلًا، حين لا يستجيب إلا لإرادة غير إرادتها، ولا لأيّ مصلحة يمكن أن تلتقي مع مصالح بلدها؟


بدر الدين عرودكي


المصدر
جيرون