كيف نقارب مفهوم التعددية الدينية؟



مرّ مفهوم التعددية الدينية المعاصر بسيرورة تاريخية طويلة، في موطنه الذي استحال فيه خلقًا ناجزًا ذا بنية متماسكة، وهي سيرورة ساهمت فيها عناصر عدة، تدور في فلك نواة أساسية هي الفجوة التي تستعصي على التجاوز، بين الحقيقة في ذاتها وبين الفهوم المتنوعة لها. وهي نواة صنعها التغاير بين الماديّ واللاماديّ، والمسافة الفاصلة بين الدالّ والمدلول، وهما تغاير ومسافة اضطرا المغامرين المتصدين لمحاولة اجتياز المسافة، وجدل الصلة بين المتغايرين، إلى التوسّل بالرمز.

وقد أصبح استنفاد الجهد في درك معنى النص بديلًا وحيدًا؛ بسبب العجز عن إثبات قطعية وثائق الحدث المسيحي، والغموض الذي يلفّ شخصية المسيح التاريخي، وهو عجز دفع باتجاه محاولة فهم النصوص، كطريق وحيد ينبغي السير فيه إلى منتهاه؛ الأمر الذي جعل انتهاج هذا الطريق سعيًا هيرمينوطيقيًا بامتياز.

فإذا كانت النواة المتمثلة بالفجوة بين الدال والمدلول، والتغاير الماهويّ بين الماديّ واللاماديّ يسبح في فلكها في المدار الأقرب تعددية مشتقة من طبيعة الكرستولوجيا، وملزمة بتوسل الهيرمينوطيقا، وهو توسّل بها يجعل الرابط بينها وبين نواتها شديد الإحكام؛ بسبب اشتراك جوهري في التأويل ومجافاة الحرفية، نقول إذا كانت هذه هي النواة ومدارها الأقرب؛ فإن المدار الثاني الذي يساعد في تصور مفهوم التعددية تصورًا تتفاعل فيه البنية والتكوين هو التطور التاريخيّ لمفهوم التسامح وقبول الآخر.

ومفهوم التسامح الذي كرّسته تيارات الروحانية الصوفية المسيحية، والنزعة الأنسنية في الكاثوليكية، قد جعلته الحروب الدينية بين الطوائف المسيحية ضرورة لا محيص عنها.

أما المدار الثالث فهو مفهوم الفردية الذي مرّ بمراحل عديدة، قبل أن يصبح مفهومًا مركزيًا تقوم عليه عمارة الفلسفة الليبرالية بدءًا من انتصار الفلسفة الاسمية التي تعدّ الكليات مجرد أسماء، ونسبية الواقع أمرًا لا مفر منه على الواقعية التي تعدّ الكليات واقعًا يمكن الوصول إليه عبر المجاز، مرورًا بذاتية ديكارت وكانط  ونتشه، وانتهاء بمفهوم الذات المجردة من عوارضها، والقادرة على اختيار غاياتها بالبعد الإرادويّ، وليس  اكتشاف غايات محددة مسبقًا بالبعد المعرفيّ.

إذا كانت هذه النواة والمدارات التي تسبح في فلكها تتيح فهم السياق الذي مهّد للتعددية الدينية في شكلها الأنضج الذي نراه في فلسفة جون هيك رائد التعددية الدينية المعاصر في الغرب؛ فإن التعددية الدينية في الإسلام لا يمكن القبض على فحواها، ومحاكمتها من دون معرفة أنها لا تشترك مع التعددية المشار إليها إلا في النواة الصلبة، وهي نواة مشتركة بحكم طبيعة المبحث السيميائي، واستعصاء الحقيقة على القبض على كلّ أبعادها، والإمساك بتلابيبها.

أما التأويل الذي فرضه في الفضاء غير الإسلامي مبحث الكرستولوجيا (وقد وصل في بعض الصور إلى فوضى في الرؤى لا تقيم وزنًا لمرجعية النص، ولا تأبه لقصدية مؤلفه)، فهو لا يمكن أن يكون مفتوحًا على مصراعيه في النصّ المقدس الإسلاميّ إلى درجة قتل منح السلطة كاملة للقارئ، وإلغاء قصدية واضعه، كما تفعل تفكيكية دريدا، ولا في جعل الأفق الحاضر للمؤول محتكرًا صنع معنى النص في محاكاة لهييرمينيوطيقا هايدغر؛ لأن النصّ الديني في الإسلام لا يُمكن له أن يكون “ما هو” من دون وجود نقاط مرجعية ثابتة تكون معيارًا لفهمه، وتفسيره، وهو يستحيل شيئًا آخر، إذا انفتح على نسبية لا نهائية، لا يمكن القبض عبرها على معانٍ نهائية.

إن المنهاج التأويلي الممكن اتخاذه في الإسلام منهاج لا يمسخ النص، ولا يُبدل خصائصه، ويتوافق مع خصيصته الرئيسة المُتمثّلة في غايته التي لا بد أنها موجودة، والتي يمكن الوصول إليها عن طريق استنباط قصد واضعه، (وثمة أدوات لهذا الاستنباط)، وإلا تحول النصّ إلى لغو وعبث، لا إلى نصّ يُنير طريق الخير، والحق، والخلاص للناس، كما يقول.

وأما التسامح الذي كانت الحركات الصوفية المسيحية والنزعة الأنسنية أبرز معبرين عنه في الفضاء المسيحي، فإنه ليس غائبًا عن الفضاء الإسلاميّ، بل إن للمفهوم في اللغة العربية بعدين، لا بعدًا واحدًا كما هو الحال في اللغة اللاتينية.

فمدلول التسامح في اللغة اللاتينية لا يتجاوز معنى التحمل والكفّ عما فيه أذى للآخر، وفي هذا إفقار للمفهوم؛ لأنه يربطه ربطًا وجوديًا بالاختلاف.

أما في اللغة العربية، فالدالّ ذو بعدين: بعد سلبيّ هو المذكور، وبعد فعّال لا يقف عند حدود التحمّل، أو الكفّ عن الأذى، وإنما يتعدى ذلك إلى إتيان سلوك فكريّ أو قوليّ أو فعليّ، يتضمن التعاون مع الآخر، والدفاع عنه، وعن حقوقه، بل إيثاره على النفس في بعض الأحيان.

ولكن ما يجعل للتسامح في الإطار الإسلامي قدرة محدودة على التمهيد للتعددية الدينية هو محدد من محددات التسامح، لا يمكن للمنظومة الإسلامية أن تقوم من دونه، وهو المبدأ المركزيّ.

وبغضّ النظر عن كون المبدأ المركزيّ مبدأً دينيًّا أو غير دينيّ؛ فإن محورة الحياة الاجتماعية والسياسية حوله كمبدأ وحيد يمثل سقفًا ينغلق عنده الجدل الخلاق، كما يعدّ عائقًا في وجه تخلق ثقافة التسامح؛ لأنها تجعل من المتسامح متفضّلًا على المتسامَح معه، وفي هذه المنة التي يمنحها الانتماء إلى المبدأ المركزيّ قتل لروح التسامح، وتشويه لجوهره، وتهديد بإمكانية زواله. ولا شك أن الإله الواحد مبدأ مركزي في الإسلام، دون إزاحته عن مركزه، خرط القتاد.

في المقارنة بين منزلة الكليّ الذي استحال في الغرب اسميًا ممهدًا لمفهوم الفردية، الذي يمثل مكونًا عضويًا من مكونات مفهوم التعددية بما ينطوي عليه من تنويع زوايا النظر إلى الواقع،  فإن تمحور النظرية الغربية حول الفرد، وهيمنة الفلسفة الاسمية التي تنكر الكليات الواقعية، مجافيان بصورة كبيرة للتصور الإسلاميّ الذي يتخذ فيه الكليّ الواقعيّ موضع صدارة؛ فالأصل الأول للمعرفة الدينية في المنظومة العقدية الإسلامية يقوم على أساس الاعتقاد بوجود إله واحد، كليّ العلم، كليّ القدرة، كليّ الإرادة، وهو ذات قائمة بنفسها.

ويتفرع عن هذا الأصل أن الكليّ في التصور الإسلامي ذو وجود تابع للعلم الإلهي؛ فالكليّات هي معلومات الإله التي يتقدم عليها علمه، فهي حصيلة العقل الإلهي المدرك إيجابًا، والعقل الإنساني سلبًا.

والحق أن السعي إلى مفهوم تعددية دينية في الفضاء الإسلامي مطابق لنظيره في الفضاء المسيحي لا يعدو أن يكون محاولة لقسر الواقع على تحمّل ما لا يطيق؛ لأن الاشتراك -كما ذكرنا في البداية- في النواة لا يتيح تحقيق هذه المطابقة، فلا التأويل يمكن أن يُفتح على مصراعيه في الإطار الإسلاميّ، ولا مفهوم التسامح يمكن أن يلقي عن كاهله ثقل المبدأ المركزي، ولا الكليّ يمكن أن يصبح مجرد اسم بلا وجود واقعيّ إلا في حدود معينة.

إن هذه الفروق بين السياقين تجعل من التعسّف محاكمة مفهوم التعددية الدينية في الإسلام وفق المعيار الآخر، ولكنها في الوقت نفسه تمكّن من تسليط الضوء على جواب قصور في مفهوم التعددية الدينية في الإسلام، وتحضّ على البحث عن سبل لتجاوزها.

المبدأ المركزي الذي يمثل محددًا من محددات التسامح، والذي لا يمكن التخلص منه في المنظومة الإسلامية، ولكن يمكن الخفيف من تقييده للتسامح، وقبول الآخر إذا بقي محصورًا في الجانب الخصوصي، ولم يعد مطلوبًا منه الهيمنة على الجميع.

ومن الضروري، لتطوير مفهوم التعددية الدينية في الإسلام، إبداع منهج جديد للتأويل يأخذ بالحسبان كلّ الموسوعة المعرفية والثقافية المعاصرة، ولا يكتفي بمحددات التأويل التي وضعها العلماء القروسطيون.

أما الكليّ الواقعيّ الذي يعيق تحقق مفهوم الفردية بما يحدثه من قفزة من العموم إلى الكلية موصدًا بذلك الباب أمام ما يمكن أن يستجد من أفراد، بسبب جوهرة الأعيان، وبما يحدثه من حدّ للاجتهاد والمبادرة الخلاقة؛ بسبب جعله العلم تابعًا لماهية موجودة، الأمر الذي يجعل التعددية الدينية شائهة بسبب فقدانها الانفتاح الدائم على الجديد، وبسبب أن الفرد الذي هو أساسها لا يكون حرًا في مبادراته، ومستقلًا عمّا هو خارجيّ مفروض عليه،  فقد حدثت نقلة في الكلام الإسلامي أضعفته على يد الأشاعرة والمعتزلة، وقد حدثت هذه النقلة في الكلام الإسلامي، بفضل الفاعلية المنسوبة إلى الذات الإلهية التي أضعفت الواقعية المطلقة، ولكنها لم تُزلها؛ لأن تبعية علم الإنسان للكليّ تبقي قدرًا من واقعيتها بالنسبة إلى الإنسان، وهذا الإضعاف للكليّ الواقعيّ يجعل من الممكن نقض واقعية الكلي، وعدّ الحدود غير مطابقة للماهيّات، وإنما مجرد أسماء من اختراع عقل الإنسان الذي يختار صفات لازمة للأشياء، وليست معبّرة عن ذاتيتها، ويحاول أن يعرّف بها الأشياء تعريفات لا تدعي مطابقة الماهية، ولا جوهرة العموم الذي يظل قابلًا لشمول أفراد جدد، وهو ما يُبقي علم الإنسان في حالة تطور دائم، وبهذا يصبح علم الفرد، وعمله نسبيين، لا يسعيان إلى التطابق مع موجود مطلق خارجي، وتصبح حرية الفرد واستقلاليته أكثر تعينًا، ولكن تحت سقف الإقرار بوجود مطلق كليّ القدرة، وكليّ العلم، وكليّ الإرادة.


مناف الحمد


المصدر
جيرون