الفنان السوري “عمر حمدي” في ذكرى رحيله



ما بين ولادة الفنان التشكيلي عمر حمدي 1951، في بيته الطيني الريفي بقرية “تل نايف”، في أقصى الشمال السوري من مدينة الحسكة، وموته المباغت والدرامي في مدينة “فينّا” النمساوية، في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2015، ثمة ما يُحكى ويُقال. فهو -بلا أدنى شك- قامة ثقافية وفنية سورية مديدة، حفرت لذاتها المبتكرة قنوات مُتعددة لحضور لافت في محترفه الأوروبي. ولكونه حالة إنسانية متفردة بمآسيها، تقص مجونها الماتع فوق سطوح الخامات وثنايا اللوحات وسجل ذكرياته، وتجود بما لديه وفي جعبته من مواجع عميقة ولحظات ألم وحزن دفين، وبما يحمله شريط أحزانه من مرارة وخيبات متعددة حبلى بالمصاعب والمتغيرات والخطوب.

عاندته الأيام منذ طفولته وشبابه، وتمرد عليها خارجًا عن مألوف المعايشة اليومية لأقرانه وأبناء جيله. اكتشف مُبكرًا ذاته الفنية المتحررة والرافضة التربيةَ الأسرية التقليدية النمطية والقمعية، متلمسًا ملامح حلمه، ومناطق وعيه بالحرية والانعتاق والتفاعل الإيجابي مع الشخوص والأشياء المحيطة، والتي أمست بمثابة عشقه الشخصي، والمُعبرة عن فسحات ذاته الطموحة، لتفجير طاقاته الكامنة ومواهبه الفطرية، وخوض معابر الهواية المسكونة بما هو مُشتهى، والمتناسبة وميوله ورغباته التي وجد ذاته عنصرًا فاعلًا فيها، متجلّية بالفنون التشكيلية؛ تلك التي دوّنها صريحة في جميع دفاتره الورقية وجدرانه المتاحة، من خلال رسومه وتصاويره الفحمية والملونة التي لم تُفارقه قط، وبقيت هاجسه دائم التوهج، فسعى إليها بما أوتي من قدرة؛ فدفع من أجلها كثيرًا من الشجون والمفارقات التي سكنته.

في بداية الرحلة، أجبرته ضرورات الحياة على اختزال مجرتها الوجودية؛ فالتحق بمدرسة تأهيل المعلمين، وتخرج بشهادة تؤهله لتدريس طلاب المرحلة الابتدائية، لكن سجله الشخصي “سوري كردي”، لم يشفع له في أن يتسلم وظيفته بشكل طبيعي! ساعده مدير مدرسة بلدته، في التدريس من خارج الملاك؛ فأصبح مدرسًا لمادة الفنون ومواد أخرى، فكانت محطة مهمة في حياته، وفرت له دخلًا ماديًا يساعده في تحقيق أمانيه عبر محطات الرسم متعددة التقنيات، مزاولًا في الوقت نفسه مهنًا وحرفًا متعددة، كخطاط ورسام إعلانات وقاطع تذاكر. كانت حياته مجبولة بدموع الأمل والخيبة من واقع أسري فقير ومؤلم، وأب قاس متعدد الزوجات.

كانت سبورة تعلمه الأولى جدران منزله و”لوح” المدرسة، وفي مرحلة لاحقة، الجدران المتسعة لشبقه الفني في أكثر من مكان، فأصبحت ميدانه الفني وملعبه في تفريغ شحناته، والبدايات المُفجرة لمخزونه السردي والانتقال للرسم على سطوح متعددة الخامات. كان مفتونًا بطبيعة الجزيرة السورية المعانقة لأشعة الشمس الذهبية، وبلباس الحسان الملونة في بلدته، والمتماهية مع حدود رؤاه ومخزوناته البصرية، وعراك الفلاحين مع معزوفات الأرض وغناء الحقول وتغاريدها المُحملة بالخيرات. زودته بلدته بجرعة كبيرة من المخزون البصري والمقدرة على تسجيل مرئيات سكنت ضلوعه ومواجعه وأحاسيسه، وحفلت بصيرته بذلك الكم الوافر من جماليات المكان وذاكرته البصرية، وساعدته كثيرًا في تشكله الفني بفطرته ودراسته الذاتية، وفي تنويع أساليب الرسم والتلوين الموصولة إلى مجون تجلياته.

مدينة دمشق كانت أولى مُغامراته وضالته المأمولة لتحقيق حلمه الأول، ومهوى عشقه الشخصي، ومنصة أمل مشتهاة في الوصول إلى نجومية محدودة وارتزاق مأمول. ولعل معرضه الأول في صالة المركز الثقافي في “أبو رمانة”، وضعه وجهًا لوجه أمام أزمة التسويق وفقدان الأمل المنشود، والذي خاض فيه جملة من المغامرات السريالية، بكل ما فيها من غرائب وأحداث، سواء من جهة نقل لوحاته البالغة نحو خمس وثلاثين لوحة، تأبطها فوق باصات النقل المعروفة باسمها الشعبي “الهوب هوب”، وغدا حينها أشبه بأرجوحة معلقة ما بين السماء وصهوة الباص الجنونية، أو من جهة سلوك إدارة صالة العرض للمركز الثقافي في “أبو رمانة” التي استقبلته استقبالًا لا يليق بقاطع طريق. ولم تأت حساباته المتفائلة مع الواقع المُحزن وخيبته، في أولى تجارب معارضه التي قادته، وبسرعة مُجنونة غير محسوبة النتائج أيضًا، عندما قام بإحراق جميع لوحاته في حاوية كبيرة للقمامة في أحياء دمشق؛ ليعود إلى بلدته كسير الخاطر خالي الوفاض واليدين، محملًا بباقة حزنه.

وسرعان ما كانت له الخدمة العسكرية الإلزامية بالمرصاد. وقد أوصله قدره بالصدفة ليكون واحدًا من مؤسسي مجلة (الفرسان) السورية التي استغلت قدراته ومواهبه مجانًا، لكنها فتحت له بوابة عمل وأمل وفرصة متاحة في ما يُحب ويهوى. وتعمقت تجاربه الفنية في تقنيات فنية متعددة موزعة ما بين الإخراج الصحفي والتصميم الإعلاني، ورسم الشخصيات والمناظر وتصميم أغلفة الكتب والرسوم الداخلية للكتب المدرسية، وسواها من مدارات الفنون البصرية التصويرية الملونة والطباعية، في سياق موتيفات صحفية! لكن حالته المفرحة لم تطل، وسرعان ما عانده الحظ، عبر ترهات السياسة القمعية، فدفعته للهروب ليلًا وسرًا إلى بيروت، ومنها إلى مهجره الأوروبي في النمسا، لتتبناه وتحتضنه كرسام سوري مهاجر، باسمٍ أعجمي جديد “مالفا”! راكبًا صهوة حريته المُشتهاة في الوقت المناسب، تاركًا خلفه وطنًا مستلبًا ومستباحًا لحاكم مُستبد، وأهلًا وأحبة وذكريات حزينة باكية ومُبكية في آن معًا.

تدرج في اختبار قدراته الشخصية بما امتلك من خبرات فنية، ساعدته في تطويع يده المتحررة من القيود النمطية الأكاديمية القسرية، وتمكن بجلده ومثابرته استلهام وسائط تعبير بنكهته الخاصة. أثبت حضوره الفني المميز ومقدرته الفائقة على إنتاج اللوحة التصويرية الحداثية، والمُعشبة بنكهة سورية لافتة، تجمع في طياتها خلطة متماسكة من المواد والصبغات اللونية والتقنيات، وتقوده قريحته المُدربة إلى توليف الرؤى بواقعية تعبيرية أثيرية، محملة بمسارات الألم والحزن المحفور في خياله وذكرياته.

كانت أسرته حاضرة بكثافة في لوحاته وجلّ رسومه، ومليئة –كذلك- بطبيعة بلاده المفتوحة على شمس الحرية وأشعتها الذهبية ومواسم حصادها، التي شكلت مجاله الحيوي في توصيل جماليات تجلياته؛ ليصل بها إلى بر تجاربه المتعاقبة، وتجسير الرؤى ما بين التناغم الشكلي لتكويناته ومفرداته وجمله السردية، والمزاوجة بين الواقعية التعبيرية والتعبيرية التجريدية التي تتناغم فوق توليفات سطوحها البيضاء، ليخرجها أشبه بسجادة ملونة من نوع خاص، مُتسعة المدى، مفتوحة على التأمل والموازنة بين جميع المؤثرات اللونية في اتساع مساحاتها؛ لترسم معالم خصوصية حضور دافئ في معارض فردية ومشاركات دولية كثيرة، تعطيه زخمًا ودافعًا لمزيد من التألق والبحث الذاتي عن منصات تشكيل وتأليف وتلوين، وتزوده بمداد من الحيوية والحركة والتفرد، في نسج مدارات قصته اللونية وحكاياته البصرية، بيدٍ ماهرة وريشة بديعة، أتقنت غوايتها وفتنتها التأليفية، وعرفت طريقها إلى مسارات خطوطه في احتواء مساحاتها، بما يليق من تقاسيم اللون وأغنيات التناسق والتناسب الشكلي والتقني، والتلازم ما بين عناق الشكل والفكرة والتقنية والمضمون.

خطوطه وملوناته ذات صبغة حزينة ومحزونة وداكنة حينًا، ووردية زاهية متفائلة في كثير من الأحيان. بقي فنانًا أمينًا وفيًا لتجاربه الشخصية، مُحبًا ودودًا منسجمًا مع تطلعاته الذاتية في توصيل فكرته ورؤاه. لم تأخذه السياسة حينها إلى مجراتها وفتنتها اللعوب! بقي محافظًا على إنسانيته وفنه الجميل، وحمل وزر حلمه الجمعي والمجتمعي والمنتسب إلى فقراء بلاده وأهله السوريين، كباقات جمالية مُشرقة، وقد رافقه في دروبه المريرة وخيبات أمله ومغامراته جميعًا.

سورية التي أحب، وهي تحترق بأيدي جلاديها، نجد لها صدى في أكثر من لوحة وتجربة وموقف. تجدها منعكسة في معظم أعماله الأخيرة ولوحاته، ما قبل حدوث الفاجعة. وقد عايش بلاده المحترقة بنيران الحقد والهمجية، والقتل المباح في فترة معاناته مع مرضه العضال. تابع لحظاتهم اليومية بما يعتصره الألم وتقاسيم الحزن والأسى، وترك إرثًا بصريًا حاشدًا بتسجيلية خطيّة ولونية عابقة بالأماني وترجمات الأمل والبقاء. لكن الموت المبكر عن عمر بلغ نحو أربعة وستين عامًا، كان له بالمرصاد، مُغيبًا جسده الناحل، تاركًا في لوحاته تذكرة وسلوى لمحبي أعماله وأثاره الفنية الدالة عليه.


عبد الله أبو راشد


المصدر
جيرون