انتهى داعش.. أسئلة لا بد منها



مع اقتراب معركتَي دير الزور والرقة في الشمال الشرقي من سورية من الانتهاء، ودخول تركيا إلى الشمال الغربي؛ تكون مسألة الإرهاب في سورية قد بدأت تكتب نهايتها، من دون أن يتبين أي أفق لنهاية سعيدة للمسألة الأساسية في سورية، ونعني بذلك مسألة إنهاء الاستبداد، وبدء مرحلة انتقالية تُمهّد لسورية جديدة على المستوى السياسي، مختلفة عمّا سبق، إذ يبدو أنّ أقصى ما سنحصده هو تجديد وجه الاستبداد أو النظام، بما يجعل الباب مفتوحًا، لإطاحة الاستبداد تدريجيًا، أو تمكن ذلك الأخير من إعادة إنتاج ذاته بلبوس جديد. والحق أن أفضل الاحتمالين يُعدّ حصادًا هزيلًا جدًا؛ إذا ما قيس بما دفعه السوريون على المستويات كافة: الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية. بل حتى على مستوى وحدة البلاد الممزقة، وسيادتها التي تتناهبها احتلالات شتى.

إذًا؛ (داعش) ينتهي اليوم، و(النصرة) تسير على الطريق ذاتها، لنكون أمام أسئلة تبحث عن إجابات، بل لا يمكن التقدم دون إيجاد إجابات لها لتحميل المسؤولية لمن يستحق: من أوصلنا إلى هنا؟ ولمَ نجح النظام والعالم في جعل محاربة الإرهاب الأولوية الأولى؟

لا شك أن النظام -كأي نظام مستبد- يعمل دائمًا لتجميع الأوراق والقوى والأدوات التي تتيح له الهيمنة والسيطرة على الشعب وإخضاعه، وهو يفعل ذلك منذ تكوّن حتى اللحظة. وإحدى هذه الأدوات كانت الاستثمار في “الإرهاب” الذي تحوّل، منذ أحداث أيلول/ سبتمبر الأميركية، إلى أحد أهم أدوات الاستثمار للأنظمة العربية المستبدة لتعويم نفسها عالميًا، باعتبارها تؤدي وظيفة ما في “الحرب على الإرهاب”؛ فعملت على رعايته وتربيته بيد، وإعلان الحرب عليه بيد، في لعبة شد حبال مع الغرب وشعوبها المحكومة بقبضة الأمن. ما يعني هنا أن استراتيجية النظم هذه ما كانت لتنجح؛ لولا وجود طرف عالمي يشتري هذه البضاعة، وهي بضاعة ذات وجهين أيضًا، بعضها يتخوف من خطر الإرهاب ويعدّه العنصر الأهم الذي يجب محاربته، وبعضها يستثمر في الإرهاب، لإضعاف الأنظمة وإعادة إنتاج أوضاع إقليمية ومحلية أكثر خدمة لمصالحه، أي يعمل بالتوازي مع النظام، وليس بالضرورة بالتنسيق معه؛ لتخريب الثورات ومنعها من إنتاج البدائل الوطنية. وبهذا يشترك النظام وإيران وتركيا وأميركا وروسيا، ودول الخليج المرعوبة من تمدد الربيع إليها، في سياسة الاستثمار في الحرب على الإرهاب، على الرغم من أننا إزاء حلفَين، لكلٍّ منهما دوافع مختلفة من التوظيف السياسي للحرب على الإرهاب، إلا أن سهام الجميع تُوجّه إلى جسد الثورة والشعوب الطامحة للتغيير، فيما يبدو القسم الأكبر من أوروبا مشدودًا إلى الشق الأول من المعادلة، أي جعل “محاربة الإرهاب” تتقدم على محاربة الاستبداد، وهذه معادلة خاطئة، من دون شك؛ لأن الثاني مساعد للإرهاب، دون أن يكون مُولدًا له بطبيعة الحال.

إن خطأ المعارضة السورية، والفاعلين السوريين يكمن هنا في عدم القدرة على فهم هذا التوافق، بين المستبد والمجتمعَين الدولي والإقليمي على محاربة الإرهاب، فالنظام كان الأقدر على فهم ما يريد هذا المجتمع الدولي، وقد أدرك من أين تؤكل الكتف وقدّم نفسه بوصفه لاعبًا لا يمكن الاستغناء عنه، فيما فشلت المعارضة والقوى الثورية في هذا الدرس، بل ذهبت بعيدًا في الفشل، حين تحالفت مع تلك القوى، واعتبرت بعضها “جزءًا من الثورة”، أي أنها فشلت في الاستثمار السياسي لظاهرة الإرهاب، كما فعل النظام. ويمكن القول إنها خاضت المعركة هنا بغباء منقطع النظير، حين تحالفت مع بعض قوى الإرهاب، وبكثير من السذاجة السياسية، حين رفضت محاربة الإرهاب بالتعاون مع القوى الدولية والإقليمية؛ فخسرت الدعم الدولي والإقليمي، في حين أن القوى التي عرفت كيف تلعب اللعبة هي الممسكة بزمام الأمور اليوم (قسد مثالًا).

من جهة أخرى، إن النظام السوري له تاريخ عريق في الاستثمار في الإرهاب والحركات الإرهابية والإسلامية، فالأمر لديه سابق على أحداث أيلول/ سبتمبر، كما نرى في أحداث الثمانينيات والحرب الأهلية اللبنانية، وتصاعد الأمر بعد أحداث أيلول/ سبتمبر، كما سنرى في أحداث “مخيّم نهر البارد” في لبنان، (القاعدة) في العراق، بما شهد الأمر من توظيفها ضد الأميركيين سعيًا للتعاون معهم من الباب نفسه؛ الأمر الذي يضعنا أمام سؤال: لِمَ وقعت المعارضة السورية في هذا الفخ، على الرغم من أن الدلائل وسياسة النظام تقول -بما لا يدع مجالًا للشك- إن النظام يسعى لإيصال الأمور إلى هنا؟

أيضًا على مستوى آخر، بعد سبع سنوات مما يجري في سورية، تمكن الجميع من مراكمة قوة ما، على ظهر مسألة الحرب على الإرهاب، سواء سياسيًا أو عسكريًا، فإيران باتت متواجدة في سورية والعراق على نحو أقوى مما كانت سابقًا، و(حزب الله) بات لاعبًا إقليميًا، واكتسبت قواته خبرة قتالية، فيما روسيا باتت المتحكم الأهم في سورية، وكانت فائدة (إسرائيل) بتدمير سورية، بلدًا وشعبًا وجيشًا، فيما تتمركز واشنطن عسكريًا في الشمال الشرقي من سورية، ويبدو أن إدلب وجوارها قد تكون من نصيب التركي الذي يستعد اليوم لوضع حجر الأساس للإمبراطورية التي تداعب خيال أردوغان، فيما تمكّن الأكراد أيضًا من خلق قوة سياسية وعسكرية، وتمكن النظام -على الرغم من كل خسائره- من أن يكون معترفًا به في الحرب على الإرهاب، كما تشي المعارك الأخيرة، فيما يبدو أن المعارضة السورية هي الوحيدة التي لم تتمكن من مراكمة أي شيء، لا سياسيًا ولا عسكريًا، وهذا أسوأ ما في الأمر، فالاستبداد لا يرحل بأيدي المجتمع الدولي أو المفاوضات وحدها؛ وتكون هذه مفيدةً حين تمتلك القوة الدافعة لرحيل الاستبداد، ودون ذلك قبض السراب.


محمد ديبو


المصدر
جيرون