عن الإلمام الروسي “العميق” بالملف السوري



لتبرير عنف التدخل الروسي الحالي وحجمه في سورية؛ تنتشر في الأدبيات اليساروية خرافاتٌ عن علاقات، كانت تحالفية وشبه اندماجية، بين النظام البعثي في سورية والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، معتمدين في جزمهم هذا على كون الاتجاهين الأيديولوجيين البعثي والشيوعي متقاربين، ما سينعكس حتمًا على تشجيع التقارب السياسي والاقتصادي والعسكري بين البلدين. وتُشير هذه الاستعجالات، في التحليل وفي الاستنتاج، إلى جهل عميق بتطور الحياة الحزبية في سورية منذ الاستقلال. وعند مراجعة العلاقات في أثناء مراحل التأسيس لمشهد سياسي سوري جمعي؛ نجد أن العداء كان شديدًا بين الحزبين “الاشتراكيين”. فكما هو معلوم، الشيوعيون تبنّوا -في التحليل وفي الممارسة- “الأممية الاشتراكية”، أما البعثيون فقد كانوا أصحاب النظرية القومية المُستقاة من القومية الأوروبية في “أبهى” تشكيلاتها، من كتائب موسوليني إلى الوطنية الهتلرية.

في هذا الصدد، تحفل كتب التاريخ بإشارات إلى الجدالات العنيفة التي كانت سرعان ما تتحوّل إلى رمي كراسي واستعراض العضلات في جامعة دمشق، إبّان الديمقراطيات القصيرة التي عبرتها، قبل انقلاب البعث سنة 1963. في الحلقات الحوارية، سرعان ما يفقد البعثيون “صبرهم” ولا يجدون الحجة؛ فيتناولون ما خف وزنه وثقل أذاه، لينهمروا به على رؤوس الشيوعيين الذين كانوا أكثر ثقافة وتكوينًا عقائديًا، على الرغم من التماثل الإقصائي والاستحوازي.

إبّان حكم مختلف التوجهات البعثية المتصارعة بين 1963 و 1966 من جهة، و1966 و 1970 من جهة أخرى، جناح ذات اليمين وجناح ذات اليسار، كان الشيوعيون مُبعدَين تمامًا عن التعبير أو عن المشاركة في الحياة العامة، إلا في ما ندر وإلا في حالات تقديم آيات الطاعة والخضوع للقائمين على البلاد.

سنة 1970، حصل انقلابٌ نادى القائمون عليه بتصحيح الانحراف “اليميني” في مسار القيادة السابقة. ولكن هذا الانقلاب سرعان ما أوضح مساره، من خلال تحجيم دور مؤسستين أساسيتين نظريًا، ولكنهما مصدر خطرٍ على كل نظام حكمٍ يسعى إلى “الاستقرار” فيه إلى “الأبد وما بعد الأبد”؛ فتم تحويل الحزب إلى بيروقراطية أمنية وزبائنية، كما أُضعف الجيش لصالح المجموعات الأكثر ولاءً ومختلف الأجهزة الأمنية المتوازية. وإثر بروز الرغبة في إعادة تشكيل كل المشهد السياسي والمجتمعي؛ تم إنشاء “الجبهة الوطنية التقدمية” التي، على نمط مثيلتها الألمانية الشرقية آنذاك، من المفترض بها أن تضع مجمل الأحزاب “التقدمية”، تحت إبط أو قدم الحزب الواحد. فخضعت جميع التيارات الناصرية أو من في حكمها، وهي منقسمة ومتصارعة، كما الحزب الشيوعي التقليدي بزعامة خالد بكداش، للرغبة في السيطرة من قبل النظام الجديد، وانضمت إلى هذا الهيكل الجديد المُستحدث لتوزيع المنافع المحدودة، والأعطيات السياسية الضئيلة، والسيطرة التامة والشاملة.

غصّت السجون، إبّان العهدين، بالشيوعيين الذين اختاروا أن لا يُحابوا النظام، كما سواهم من الناشطين السياسيين من التوجهات المختلفة، خصوصًا البعثي منها، لأن “كره” ذوي القربى، كان عماد التأسيس للتصحيح. واستبُعد الشيوعيون، ممن لم يتم استقطابهم أمنيًا ووظيفيًا، من مختلف المراكز الإدارية والتعليمية، وصارت تهمة “شيوعي” نظيرة، لبئس المصير؛ فتم قطع الأرزاق قبل الخوض لاحقًا في قطع الأعناق.

معرفة هذا التاريخ ضرورية لفهم علاقة “الإخوة الأعداء”، من البعثيين العقائديين والبعثيين الأمنيين من جهة، بالشيوعيين المستوعَبين أو المغضوب عليهم ولا الضالين من جهة أخرى. ومن خلال هذا الفهم؛ يمكن مقاربة العلاقات السوفيتية سابقًا والروسية حاليًا، آخذين بالحسبان تهميش عامل التضامن الأيديولوجي إلا في إطار النفاق الدبلوماسي واللازمة الدعائية التي كانت تتحدث عن “الاتحاد السوفيتي الصديق” ودول “المنظومة الاشتراكية” الحليفة. وإضافة إلى القضاء الحقيقي على (الحزب الشيوعي السوري) بتطويع بعض قياداته ومنحهم فتات الحوافز التافهة من جهة، أو باعتقال وتعذيب من قاوم منهم هذا التطويع من جهة أخرى، امتد النظام السوري في محاربة الشيوعيين إلى خارج الحدود، وكنّ لهم العداء في لبنان كما في إيران. ففي لبنان، كانت أحزاب الحركة الوطنية -وعلى رأسها الحزب الشيوعي- هدفَ التدخلِ الأول، كما منظمة التحرير الفلسطينية المتحالفة معهم، سنة 1976. وكما برز العداء الشديد إبان الثورة الاسلامية في إيران، حيث دعم النظام القضاء على حزب (توده) الشيوعي، الذي شارك في الثورة بداية، وسرعان ما تم تصفيته وقياداته جسديًا من قبل الملالي الجدد سنة 1980.

ما سبق لم يمنع المؤسسات البحثية السوفيتية من أن تعرف عن قرب، وبشكل متعمّق، الوضع السياسي والعسكري السوري. فتحليل السياسات المتقلّبة تحليلًا منظّمًا لم يكن يصعب على المستشرقين السوفييت البارعين في فهم “حنكة” الاستبداد الشرقي منذ لينين. لكن كل هذه المعرفة لم تدفعهم إلى التدخل والتخفيف عن الغضب والقمع الذي طال حلفاءهم الشيوعيين، أيام الاتحاد السوفيتي أو الاعتقال والتغييب القسري الذي طال أصدقاءهم أيام روسيا. إضافة إلى الشأن السياسي، استطاع السوفييت -ومن بعدهم الروس- الإلمام بشكل واسع أيضًا بالتركيبة العسكرية والأمنية، لدى صديقهم السوري من خلال الاعتماد السوري على التسليح الروسي وتدريباته.

كل هذه المعرفة السياسية والعسكرية والأمنية حجبت عنهم المعرفة الاجتماعية والاقتصادية لحقيقة الوضع السوري. فالعلاقات الاقتصادية قامت أساسًا على المبادلات التي عزّزت منظومة متكاملة من الفساد لدى الطرفين، ووصل مداها إلى أن يصبح بعض الشيوعيين السوريين البارزين سماسرةً، بنوا ثروات من وراء استعمالهم كوسطاء في الصفقات المختلفة. وأمّا في حقل العلوم الاجتماعية، فلا يمكن الحديث عن أي عمل ذي شأن أنتجه باحثون روس، على عكس ما حفلت به المكتبات المتخصصة عالميًا، من دراسات معمّقة ولامعة لباحثين من دول غربية، عملوا على فهم طبيعة المجتمع وتركيبته المعقدة كما طبيعة المؤسسة الحاكمة؛ ما سيجعلهم قادرين لاحقًا على فهم المخاضات السياسية والشعبية التي أدّت إلى احتجاجات آذار/ مارس 2011.


سلام الكواكبي


المصدر
جيرون