لأننا نملك هذه الثقافة السياسية



تستهلك الأنظمة الاستبداديّة، خلال بقائها، روحَ المجتمع، تفعل ذلك بلا شفقة، فلا تمانع من تعليبهِ حينًا، ومن حجبهِ وجوديًّا داخل دوائر مغلقة حينًا آخر. تلك الحركة المنحنية التي تقود إلى نقطة البداية، في كلِّ مرّةٍ يدوّن فيها الحراك المجتمعي رسمًا جديدًا لخطاه. تعثّرٌ ومن بعده سقوط، ثم يأتي دور الأسئلة المشتقة من يباس المخيّلة، لتدور بمرارةٍ حول صنم القمع، وحول شذرات التغيير المفقودة، فلا عاطفة تكفي هنا لتدوين خيبات المجتمعات المحكومة بقبضة جنرالات الجيش والأمن، كلما استسلمت رمزيًّا لمجسّمات السلطة القمعيّة، وفي ذلك افتعالٌ متقنٌ -أيضًا- لمبدأ الإلغاء وإعادة التكوين، في الاقتصاد والسياسة أولًا، ثم في الثقافة تاليًا، والثقافة السياسية حدٌّ من حدود الثقافة، واشتقاقٌ طبيعيٌّ منها، ومعادلة من بين معادلات عديدة تكشف نوع العلاقة بين السلطة والمجتمع. يعرّفها روبرت داهل أستاذ العلوم السياسية، وصاحب نظرية التعددية الديمقراطية بأنها “العامل الذي يفسّر أنماط التعارض السياسي وعناصرها”، وينظر إليها المفكّر السياسي لوسيان باي على أنها “مجمل القيم الأصلية، والمشاعر والمعرفة التي تعطي شكل وجوهر العملية السياسية”.

في سورية، يمكن تبسيط مكوّنات الثقافة السياسية، لأجل اكتشاف سمات البنى الاجتماعية السائدة، حيث ما يزال الخلط قائمًا بين مفهوم السلطة ومفهوم الدولة، وما يزال قسمٌ من الناس يعتقد أن السلطة القائمة هي الدولة، وأن السلطة تمنحهم رواتبهم الشهرية من جيبها، يعتقدون كذلك أنها تملك مالًا خاصًا بها تنفقهُ عليهم، وهؤلاء يتلقّفون فرصة العمل أيضًا على أنها هبةٌ تمنّ بها السلطة على الأفراد، والسلطة هنا امتداد بطريركي للنفوذ الذكوري داخل وعيهم الجمعي، فلا يجازفون في معارضتها، أو في تغيرها، لأن في ذلك معارضة لنموذج الأب الحاكم داخل نمط الأسرة الشرقية. تلك الملامح من الثقافة السياسية يمكن ملاحظتها لدى الأقليات السوريّة أكثر من سواها بعد العام 2011، حيث استرسلت السلطة القمعية القائمة أيضًا في تعويم مخاطر الاختلاف الديني، باعتباره أحد مكوّنات الفرز الثقافي السياسي في المجتمعات ما دون الصناعيّة، تلك التي لا تزال تديرها عقلية جنرالات إمبراطوريات الموز بنسخٍ أكثر تعجرفًا، ويحكمها الموروث السلفي والإثني؛ فتجزّأت الثقافة السياسية الكلّية للسوريين، إلى ثقافات سياسية مناطقيّة، شبه انعزاليّة، وهذا أنجز أيضًا استعادة كاملة للسرديّات الغيبيّة التي تحمل قلاقل ميثولوجية تبسّط فهم طبيعة الثورة السورية على أنها مقدّمات لحرب طويلة بين أفرقاء متناحرين براغماتيًّا ودينيًّا، فبعض تلك الثقافات السياسيّة الوليدة ذهبت، في شروحاتها النظريّة المرتجلة، إلى ضرورة الحياد، والاكتفاء به، ولا ضير لديها من العزلة، إن تطلب الأمر ذلك.

عند قراءة كتاب (الثقافة المدينية) الثمرة البحثيّة المهمة لعالمي السياسة الأميركيين غابرييل الموند وسيدني فيربا، والمنشور عام 1963 نجد أنهما قسّما المجتمعات إلى ثلاث فئات، بحسب مستوى ثقافتها السياسيّة. فمنها المجتمعات التي تجهل دور الدولة في حياتها، وربما لا تدرك أصلًا الفرق بين وجود الحكومة من عدمه. ومجتمعات تدرك وجود الدولة وغيرها من القوى السياسية وتتلقى تأثيراتها. لكن ردة فعلها تظلُّ محدودة، وأحيانًا تكون معدومة، إذ لا ترى نفسها قادرةً على الفعل والتأثير. وفئة ثالثة من المجتمعات تتفاعل مع الدولة، وباقي القوى السياسية الموازية، تستقبل تأثيرها، لكنها تؤثر عليها أيضًا، فهي بذلك جزءٌ من العملية السياسية القائمة.

لقد رتّب النظام السوري أغلب مفردات الثقافة السياسيّة، في بيت الحزب الحاكم طيلة العقود الماضية. فعل ذلك بلا كلل، وعبر منظومة واسعة من الأدوات التكنوقراطية داخل مؤسسات الدولة، ومؤسسات السلطة على حدٍّ سواء، وذاك مكّنهُ من إنجاز ربطٍ ذهني بين استمرار حالة الطوارئ والصراع مع (إسرائيل)، ومكّنهُ أيضًا من اختصار الديمقراطية بوجود أحزاب ما يسمى بالجبهة الوطنية التقدمية، وكذلك تمكّن من إلحاقِ الفكر المعارض بالعمالة الخارجيّة، بغية نبذهِ من الوعي الاجتماعي العام. ثم أضاف بعد العام 2011 فرضية “المؤامرة الكونية”، كتوصيف ديماغوجي رثّ يلغي أصل الحراك الشعبي، ومبتغياته الراديكاليّة. إضافةً إلى تشجيع مجموعةِ ديباجاتٍ لغويّة طاردت فضاء الثقافة السياسية، وجعلته مسطّح البنيّة والتكوين، ثم محتهُ على مهل. فعطالة الثقافة السياسية في سورية هي ترجمة أمينة لعطالة الثقافة بكلّيتها، وإنجاز باهر من إنجازات السلطة الإلغائية.


أيمن الشوفي


المصدر
جيرون