الطائفية: كتهمة جاهزة للإطلاق



في علاقات السنّة مع العلويين، يصعب تشريح هذه العلاقات ببساطة؛ لكونها ترتبط دومًا بالنُظم التاريخية الاجتماعية السياسية الحاكمة، والملاحظ على جيل ما قبل وصول الأسد إلى السلطة انتشار مفردة علوي – سنّي، وتحتمل هذه المفردة سياق المدح أو الذم، محكومة بالعلاقة الخاصة بين طرفيها، بعد وصول الأسد إلى السلطة من بوابة الثقافة البعثية التي ترى في الديني والطائفي عوامل رجعية، أمام تحقيق المجتمع الاشتراكي الموحد، غابت بل أصبحت من المحرمات في الحياة المؤسسية والدوائر الرسمية المدنية والعسكرية، ولكن مع انطلاق حوادث الثمانينيات وانتصار الأسد على (الإخوان المسلمين)، وتمكين سلطته وترسيخها؛ أصبح أيُّ موظفٍ سنّي -في أي مكان وظيفي حكومي أو خدمي، مدني أو عسكري- عرضةً لاختبارات طائفية، كان على كل دائرة ومؤسسة أن ترفد مؤسسات الأمن التي تتبع لها بجواب حاسم: هل فلان طائفي؟

في علاقة العلوي بالسني، الأصل في العلاقة رجحان تهمة الطائفية، عند الحكم على أيّ سنّي ملتزم بسنّيته، من صلاة وصيام وعدم القيام بالمنكرات، وعلى كل متحجبة متزمتة حكمًا؛ ما يُرجّح أنها طائفية أيضًا. ولم يشفع لكثير من السنة انخراطهم في صفوف حزب البعث، لإبعاد هذه التهمة عنهم، ويعمد الموظف السني إلى وضع صورة الأسد الأب وهو يُصلّي، في رسالة لمديره في العمل أو المسؤول الأمني: أنا أصلي كما أنّ رئيسنا يُصلي، ولسان حال مديره: على هامان يا فرعون!

السنّي ينظر إلى أي علوي بوصفه ابن السلطة، وإلى أن كل علوي هو أداة استخبارات في مدرسته أو معمله أو حتى قريته، فكم من مُستخدَم مدني (آذن) في مدرسة، تسبب في طرد مديره السني أو مُدرّس آخر بدت عليه ملامح الطائفية! في الحقيقة، النظام أفلح في جعل الريبة والشك والخوف حالة اجتماعية سائدة. حيث كانت تهمة الطائفية سيفًا مُسلطًا، وعلى كل سنّي أن يحتال ويُراوغ ويُجامل، حتى يهرب منها أمام أحقر عمليات الاختبار الاجتماعي.

عند تخرجي من الكلية الجوية وبداية مرحلة الاختبار في المطار؛ قال لي المسؤول الأمني أريدك في مكتبي، يا “غالي”! ذهبت في الموعد وقال لي تفضل اشرب!

عندما يشرب السني النبيذ أو العرق؛ يرتاح المُختبِر العلوي لخصمه ويشعر معه بالأمان، كان شرب العرق إحدى أهم محطات الارتياح بين العلويين المختبِرين والسنّة القابلين للاختبار الوطني. بل إن كثيرًا من السنة يعمد إلى المسكرات، وكأنه يصيح بصوت عال: يا ناس يا جماعة، أنا لست من “الإخوان المسلمين”.

في أحد اجتماعات رؤساء الفرق الحزبية في اللاذقية، قسَم أمين فرقةٍ تفاحةً وقدّم نصفها لأمين فرقة ثانية، فامتنع الثاني بسبب الصيام؛ فأقسم أمين الفرقة الأولى عليه: والله لتأكلنّها أو أنك رفيق رجعي وطائفي ومناهض للتقدم. (اليومَ، أمين الفرقة الأولى زعيمُ عصابة تقدمية في مواجهة الثورة).

مع قيام الثورة السورية، خضعت الثورة لأدوات الاختبار الوطني نفسها، تلك الأدوات لا يمكن أن ترى في ثورةٍ تهتف “الله أكبر”، أو تخرج من المساجد ثورة تقدمية وطنية، بل طائفية رجعية.

خضع كثير من الضباط السنّة غير المنشقين للاستدعاء إلى فروع الأمن، وتعرضوا لاختبارات هزلية من قبيل: ماذا تحفظ من القرآن الكريم؟ أكمل الآية التالية: واقتلوهم… من سورة التوبة، وطُلب من بعضهم العمل تحت إمرة رتبٍ دنيا، تحقيرًا وإذلالًا، وتم تسريح عدد كبير من ضباط السنّة، على الرغم من عدم انشقاقهم، وهو أمر لم يتحدث به أحد، ويثير نقاط استفهام عما يُخطِّط له النظام مستقبلًا.

تُختصر مهزلة الاختبار الوطني تلك بالطلب من عقيدٍ أن يعمل تحت إمرة ملازم أول في المطار، وعند اعتراض الأول لدى قائد المطار؛ كان الجواب: أنا في مرحلة، يمكن أن أثق بها برقيب ولا أثق بعميد!

هل ثمة جواب وطني أعمق من هذا الجواب؟

هذه هي الحقيقة الطائفية الجارحة التي لا يحبّ أحدٌ الاعتراف بها، وهي أهم ما يجب تشريحه، إذا كنّا نرنو إلى مستقبل سوري أفضل، وهو الأمر الذي يُصرّ على نكرانه غالب المثقفين العلويين المنحازين للثورة.

الملفت للنظر أنه جرى تطوير أدوات الاختبار الوطني من قبل السلطة بعيد الثورة: إذ يمكن للسنّي أن يكون طائفيًا حتى لو كان مُلحدًا، طالما أنه ناصر ثورة شعب يقول: “يا الله” (العظم)، ويمكن للسنّي أن يكون طائفيًا ولو شرب براميل من الخمر، طالما أنه يُبارك الجيش الحر (غليون)، ويمكن للمسيحي أن يكون طائفيًا لمجرد أنه تحالف سياسيًا مع الإخوان (صبرا).

لا حلّ لدينا إلا بالتخلص من هاجس الخوف والتخويف، ورفع الوصاية عن اختبارات الوطنية للشخصية السورية، والتي أرى أنّ ثورتها كانت الاختبار الكبير للوطنية السورية، فرادى وجماعات وأحزاب.

إنّ الطائفية -كتهمةٍ مُسلّطة على سنّة سورية، مع حيرة السنّة أمام درء هذه التهمة- كانت الداعم الرئيس في تقوية السلطة والخوف من السلطة عند السوريين، كان الخوف من السلطة يتجسد واقعًا عن طريق الخوف من العلويين.

لا يمكن لنا بناء وطنٍ بعقل مهيمِن وعقل مُهيمَن عليه، وهو وظيفة الاستبداد الأولى؛ ولذلك ستكون هذه الثورة حريةً لخصومها أكثر من كونها حرية لمن ماتوا من أجلها.


منصور حسنو


المصدر
جيرون