عسكرة المجتمع السوري.. نزعة الطاغية



قدّم “هلال الهلال” الأمين القطري لحزب بعث نظام الأسد، قبل أيام، مقترحًا بعودة اللباس العسكري للمدارس، وبإعادة تدريس مادة “التربية العسكرية” في المرحلتين الإعدادية والثانوية. ويرى كثيرٌ من أنصار النظام أن “ما شهدته البلاد يعود في جزء منه إلى تخلي المدارس عن تبني مادة التربية العسكرية” التي أُسقِطت من المناهج عام 2003، واعتبرها أيضًا أنصار النظام أنفسهم -وقتذاك- بداية طريق “الإصلاح”.

العودة مجددًا، إلى وسائل مصادرة عقل المجتمع، بالأسلوب والمنهج نفسيهما، تعني أمرًا واحدًا يقود إلى إفلاس عقلية النظام، وإلى أن الوسائل القديمة التي ارتكز عليها لإدارة المجتمع والدولة هي التي ترسخ صورة “الأب القائد” والحزب الذي يقوده، من خلال طلب “البعث” تفعيل دوره مجددًا، بعد أن أكمل تشبيح عصابات النظام دورة القبض على مفاصل الحياة.

مجتمع اللون الواحد وفرض العسكرة لطلب الولاء من المجتمع، نسخها حافظ الأسد من النظام الكوري الشمالي، ورسّخ فيها، طوال ثلاثة عقود، مجتمعَ شبيبة الثورة والمظلّيين والحزبيين، ليس في قطاع التعليم فحسب بل في كل زوايا المجتمع، استخدم فيهما أسلوب السيطرة وبث الخوف والرعب؛ فكان تقديم الامتيازات وإخضاع الولاءات لذوبان الدولة في المجتمع، هو المقصود من نسخ تجربة الحكم الشمولي من الكوري الشمالي إلى الأسد الأب.

ثورة الشعب السوري، قبل ستة أعوام، شكلت انقلابًا على مفهوم “الحزب القائد والأب القائد”، وأفلتت من قبضة الحكم الأبوي الذي رسخ في أجيال السوريين المتعاقبة تحت حكم الأسدين. يعود نظام الأسد إلى مرتكزات حكم أبيه علّه يمضي مجددًا، وكأن شيئًا لم يكن، ويتصرف حواشي “حزب البعث”، وكأنهم باقون إلى الأبد، بتفصيل عباءة العسكرة لأجيال سورية القادمة، متناسين فشل وإخفاق عقود حكم القمع والاستبداد التي استخدم فيها الأسدان “البعثَ”، كهراوة فوق عقلهم وتارة أخرى بوابة “للتغيير والإصلاح”.

الحالة الخيالية التي يتصرف على أساسها النظام السوري، بعد ستة أعوام من الثورة، تتعدى الحالة المدركة لحدود حل مشكلات الدولة والمجتمع السوري التي هي أساسًا مرتبطة بوجوده على رأس السلطة، حالة عينية لا تقبل الالتفاف عليها والارتكاز على وسائل وطرائق حكم هي بالأساس شكّلت الخراب والدمار لسورية الماضي والحاضر، لم يشكل نموذج الأسد الأب ثم الابن، بمرتكزاته الأمنية والحكم العائلي الشمولي، إلا تعميمًا عميقًا لفكرة الحكم بالخوف والسطوة على المجتمع، وآثار تلك الحالة ماثلة بعد أن شاخت وسقطت كل أوهام “التحديث والإصلاح”، عند أول محك معها قبل خمسة عشرة عامًا، ثم انحدرت قبل ستة أعوام في مغطس دم السوريين.

نزعة النظام السوري المتأصلة بالاستبداد والطغيان، لا يمكن أن تغيرها قواعد فرض لباس عسكري أو طريقة تشريب المجتمع لمواد عسكرية من باب “الثقافة العسكرية”، ولا خلع تلك الملابس واستبدالها إعجابًا برئيس “عصري درس في لندن طب العيون”، خصوصًا بعد فرض تجانس من وحشية ودمار تفرد بهما النظام، تطالب نزعته من المجتمع المدمَّر والمصاب بكل أنواع الجرائم من عصاباته، أن يُقدّس قاتليه وأن يقبّل سلاحَ الجريمة فتيان وفتيات سورية، في مدارسهم وبيوتهم وأزقتهم.

عسكرة المجتمع السوري يراها النظام ضرورية، لأنها كامنة في صميمه، بعدما أظهر ميلًا شديدًا نحو الفاشية، وانتقل من مرحلة الاستبداد إلى الطغيان، ويرى فيها علاقة تبادلية “نموذجية” قائمة على شأن عيني واحد، يمكن قياسه بمقاييس الخوف من المجتمع الثائر، بإعادة الخوف مجددًا إلى عقول وصدور السوريين. العمل على الإفقار الروحي والفكري والأخلاقي كان سبيل النظام لتمدده على المجتمع والدولة طوال خمسة عقود.

يقول بعض مؤيدي النظام إن العودة “لنهج حافظ الأسد الملتزم” كفيلة بحل مشكلات سورية، ويقول السوريون إن نهج الأسدين هو سبب كل مشكلات سورية، وهو ما أثبتته وقائع عقود سلطتيهما، وإن عودة المجتمع إلى مواطنيه بألوانه المتعددة هو الضامن الوحيد لمستقبلهم، بعد أن ثار السوريون على لون العسكرة الذي اشتق منه النظام كل أدوات القمع والدمار الذي حل بهم.


جيرون


المصدر
جيرون