قبل معادلة الحرب والسلام.. المعتقلون أولًا



المعتقلون والليل أقارب، وحزن الأيام والعرق البارد أقارب، وعذرًا، مظفر النواب، المعتقلون ليسوا عبد الله وعبد اللعنة وفقط، بل هم وقمل الليل سلوة العدد، وخواء البطن غنائية حزينة أو سيمفونية حرية تعزفها الأمعاء، فيطرب قلب المعتقل أنه لا زال حيًا! هم من رهن إنسانيته لحريتنا، لهويتنا الضائعة في شبهة شهواتنا السياسية، ومكاسبها السلطوية الصغيرة أحيانًا، وتنظير بعضنا الأجوف في كثير من الأحيان! فالمعتقلون، وهم لعنة عبودية حاضرنا وماضينا وقصة موات القيمة الإنسانية على مذبح الحرية الثوري، هم راية إنسانيتنا، وراهنو قضيتنا وحرية كلمتنا.

لا يقف تاريخ الاعتقال السياسي عند حدود حجز الحرية وكمّ الأفواه عن الكلام وحسب، بل هو تاريخ التعذيب الجسدي وإخضاع النفس البشرية عنوة لرغبة مريضة لدى سجّانه، والسجّان هو أداة تنفيذٍ لعهر السلطة القمعية التي تنفي حوار الكلمة والقدرة على الإقناع، وفق منطق العقل، وتعود لبدائية القتل ونفي الكلمة بحجز الأجساد خلف عتمة أسوارها، تصل إلى درجة التخلص منه، ومن أعباء حضوره وكلمته. فحيث لم تكن للفضائح المدوية الخارجة من سجن (أبو غريب) في العراق، سوى دلالات كبرى على مدى اللا “آدمية” التي يمارسها السجانون، بحق أسرى الحرية في السجون من طرق تعذيب إجرامية، تنتهك المواثيق الدولية لحرية الإنسان وصفاته الحرة، ولم تكن الأولى في تاريخ البشر، فقد أوجد ستالين منفى سيبيريًا لكل خصومه السياسيين، واشتهرت معتقلات النظم المعروفة بـ “النظم الاشتراكية” شمولية السلطة والحكم، بالاجتهاد بفنون التعذيب الجسدي والنفسي للمعتقلين حتى يصبحوا عبرة لغيره من المدنيين؛ فلا يجرؤون بعد ذلك على الكلام أو التعبير عن رأيهم، لتصبح أي نزعةٍ حرة أو أي نقدٍ يوجه للسلطة الحاكمة سببًا يؤدي إلى الاعتقال لسنين طوال في المعتقلات.

في سورية، تاريخ الاعتقال السياسي طويل، بطول عمر سلطة البعث القائمة في الحكم إلى اليوم، زاد عدد سنوات العديد من المعتقلين خلالها على ثلاثين عامًا، ولم تزل ذكرى سجن تدمر والمجزرة الجماعية التي قام بها رفعت الأسد دليلًا على القصور الإنساني لأصحاب السلطة ولغة البطش والقتل، بل على قصور عقلي ينم عن مرض نفسي عضال، لا يستطيع مجابهة صاحب رأي برأي مختلف، ويعتدى عليه جسديًا ونفسيًا، وهو أعزل مسلوبٌ أبسط حقوق الدفاع عن نفسه.

وفي الثورة السورية، كان الاعتقال تعسفيًا شاملًا لكل صوت يخرج عن طاعة السلطة السياسية والأمنية، فبعد أن كانت شرارتها الأولى اعتقال أطفال درعا، كان -وما زال- الاعتقال التعسفي منذ بدايات الثورة ومفاعيلها الأولى مؤشرًا واضحًا على مسيرة الحل الأمني الممنهج؛ لكتم صوت الثورة والإجهاز على حاملي رايتها، بخاصة المدنيون والسلميون منهم. ليتحول ملف المعتقلين السوريين إلى ملف حاضر في أروقة الأمم المتحدة، ولتوثق جرائمه بطرق عدة في محاكم دولية لهذا الشأن، ففي شباط/ فبراير 2017 أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا بعنوان “مسلخ بشري” في سجن صيدنايا الشهير، استندت المنظمة فيه إلى تحقيق معمق، وشهادة 84 شخصًا، من ضمنهم معتقلون ومحامون وحراس سجون سابقون، وإلى تأكيد خبراء دوليين ومحليين في هذا الشأن، حيث تضمن التقرير إعدام أكثر من 13 ألف شخص من المدنيين المعارضين منذ عام 2011، إضافة إلى قتل الكثيرين من خلال التعذيب اللاإنساني الممنهج، وحرمانهم من الحصول على الماء والغذاء والرعاية الطبية، يتم اقتياد المعتقلين لإعدام جماعي ودفنهم في مقابر جماعية، قالت حينذاك الإدارة الأميركية إنها موثقة بصور الأقمار الصناعية.

قبل هذا، وفي كانون الثاني/ يناير 2014 سرّب (قيصر) سورية، المنشق عن الشرطة العسكرية، 55 ألف صورة لـ 11 ألف معتقل وضحية وما يزيد من سجون الظلام، وقد أظهرت الصور التي سرّبها قيصر أنها تخص الذين قُتلوا تحت التعذيب، أو تُركوا ليموتوا جوعًا في المعتقلات، في الفترة من آذار/ مارس 2011 حتى آب/ أغسطس 2013. وعلى الرغم من أن تسريبات قيصر سورية هذه، قد ثبتت صحتها من قبل فريق من المحققين الدوليين بجرائم الحرب، وخبراء الطب الشرعي الذين استمعوا إلى شهادة الشرطي المصور وتدقيق الصور والتأكد من صدقيتها بأن جميع المواد المسربة تحمل “أدلة قوية ودامغة”، ومقبولة من قبل المحكمة الدولية لإدانة النظام بـ “جرائم ضد الإنسانية”، كما أن الإدارة الأميركية أتبعتها بإقرار القانون رقم “H.R.5732” والمعروف بقانون (سيزر) نسبة إلى الضابط السوري الذي سرّب الصور، وهو يتيح معاقبة داعمي النظام، بما فيهم روسيا وإيران، ويهدف إلى “إيقاف المذابح التي تطال الشعب السوري”؛ إلا أنه إلى اليوم لم يتحرك ساكن في مستنقع ملف المعتقلين! ليصبح هذا الملف ملفًا تداوليًا ومجرد (بازار) سياسي في أروقة الأمم المتحدة وسلة من سلال دي ميستورا في جنيف السابع أو العاشر وربما السادس عشر، هذا إن بقي جنيف أصلًا، لا يوشي بعد بوجود نية فعلية ليتحول الملف إلى قيمة إنسانية عالمية، تثبت حضور المجتمع الدولي بشقه القيمي والحضاري في التعامل مع القضايا الإنسانية العالمية، بعد أن سقطت سياسات الدول في مستنقع الهمجية وتقاسم النفوذ على حساب دم السوريين عامة ومعتقليهم، أصحاب الرأي خاصة.

فرج بيرقدار الشاعر السوري المعتقل مراتٍ في سجون النظام، آخرها لأربعة عشر عامًا متتاليًا، ينال اليوم جائزة (الكلمة الحرة) الهولندية، وتُغنى قصائده بثلاث لغات عالمية في دور الأوبرا، بينما ما زال ثمة آلاف الشعراء والأدباء والمفكرين والسياسيين والناشطين المدنيين، وكل من تسول له نفسه قولَ كلمة حرة، يقبعون في المعتقلات مجهولي المصير، وناصر بندق الشاعر السوري العاشق لروح الثورة السلمية والحرية مغيبٌ في سجون النظام للعام الثالث على التوالي، لتبقى الكلمة الحرة تئنّ في صدور السوريين يدفعون ثمنها حياتهم في المعتقلات، ليغدو الحديث عن السلام في موطن الديكتاتورية نافلًا في زمن سِلمها، فكيف في زمن حربها على الشعب وتهمة الإرهاب تلاحق كل من قال: لا، كل من ساهم في إغاثة محاصر أو نازح أو مهجر.. فمئات الآلاف من المعتقلين السوريين هم من أصحاب الرأي والنزعة السلمية في التغيير والتحرر.

ليتني كنت رقمًا كما تلك الأرقام الثنائية في أجهزة الحوسبة وعالم التقنيات، حيث يحمل قيمة وجوده في قدرته على التحكم في نظام الأتمتة وإدارة النظم المتكاملة في ثورة الرقمنة والترميز العالمية! لكني كنت مجرد عددٍ في حسابات الحقد المبيت على وجودي المختلف عن أشباه بشر لا يتقنون سوى لغة الحقد والكراهية، يقول معتقل، ويتبعه صوت معتقلي سجن حمص المركزي، وصوت السوريين في يوم الغضب السوري منذ أيام: أنقذوا المعتقلين اليوم قبل الغد، وقبل أي حديث عن حل سوري مزمع واهم؛ علّ دول العالم تقول كفى، عندئذٍ فقط يمكن الحديث عن بداية سلامٍ ما، أو نهاية حربٍ ما.


جمال الشوفي


المصدر
جيرون