عامان يُمهّدان لاحتلال قد يمتد إلى نصف قرن



المحتويات

مقدمة

أولًا: حصيلة عامين

ثانيًا: فئران لحقل تجارب روسي

ثالثًا: قواعد ثابتة وبنى عسكرية دائمة

رابعًا: التدخل ومواقف الأطراف

خامسًا: ما لم يُنجز

سادسًا: خاتمة

 

مقدمة

مرّ عامان كاملان على بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، والذي كان هدفه المُعلن ضبط الوضع العسكري والتمهيد للعملية السياسية، وطبعًا “محاربة الإرهاب”، بينما كان هدفه الأساس والجوهري دعم قوات النظام السوري، ومنع سقوط رأس النظام، بشار الأسد، وتثبيت أقدام روسيا في شرقي المتوسط، وإنهاء القطبية الواحدة التي تُسيطر على المجتمع الدولي.

كان “منع انهيار الدولة ومؤسساتها” ومكافحة “الإرهاب الإسلامي”، هو الشعار الذي رفعته روسيا كمبرر لتدخلها العسكري المباشر في سورية، لكنّ هذه الأسباب كانت غلافًا لأسباب أخرى أكثر أهمية بالنسبة إلى الروس، بدليل أنهم شاركوا خلال سنتين في تدمير بنى الدولة السورية وانهيار ما تبقى من مؤسساتها في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة. كما لم يقوموا بعمليات جدّية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي يُعتبر رأس الإرهاب في سورية وأقوى أعمدته.

من الواضح أن محاربة (داعش) لم تكن تعني الشيء الكثير بالنسبة إلى القوات العسكرية الروسية. فمنذ اللحظات الأولى للتدخل، كانت مواقع المعارضة السورية هي المستهدفة من قِبَل الطيران الروسي، وليس (داعش) الذي كان في ذيل الأجندة وآخرَ الهموم.

تدخّل الروس في سورية واضعين نصب أعينهم المكاسب العسكرية التي يمكن أن يفوزوا بها، وكذلك الوقائع السياسية التي سيفرضونها في المنطقة والمكاسب التي يمكن أن يجنوها من وراء ذلك، مع تركيزهم الشديد على الفرص الاقتصادية التي توفرها الحرب السورية، فضلًا عن استخدامها كحالة نموذجية لتجريب أسلحتهم الحديثة، ولتصريف الأسلحة القديمة التي انتهت صلاحيتها أو كادت تُشرف على الانتهاء. كما كانوا يأملون بشدّة أن تأخذهم الولايات المتحدة على محمل الجد كقوة دولية ضاربة، خاصة في العالم القديم وشرقي المتوسط؛ وهي الأهداف التي ما زال أمر تحقيقها مشكوكًا فيه على الرغم من مرور سنتين على هذا التدخل.

أولًا: حصيلة عامين

خلال عامين، قدّم الروس فوائد للنظام السوري لم يُقدّمها له أيّ طرف آخر، بما في ذلك الإيرانيون. في المقابل، قدّم رأس النظام لهم تنازلات لم يكونوا ليحلموا بمثيلها من قِبَل أي نظام آخر في المنطقة، تنازلات كبيرة وخطيرة، مقابل حمايته وإبقائه على رأس السلطة، وعدم تعريض نظامه لخطر الانهيار والسقوط أو الهزيمة.

في البداية تحدثت روسيا بأنها ستستخدم القوات الجوية فقط، ولن يكون هناك أي استخدام للقوات البرية، إلا أنها أرسلت لاحقًا قوات برية، وقالت إنهم خبراء يساعدون القوات السورية. وخلال عامين من الدعم العسكري الواسع والمتنوع، تمكن الروس من جعل النظام السوري يستعيد السيطرة على جزءٍ كبيرٍ من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة.

وبفضل استخدامهم أسلحة مُحرّمة دوليًا، وبكثافة كبيرة جدًا، استطاع الروس في كانون الأول/ ديسمبر 2016 السيطرة على الأحياء الشرقية لمدينة حلب، وقاموا على إثرها بعملية تهجير قسرية لمقاتلي المعارضة المسلحة السورية ومن تبقى من السكان، وفق اتفاق عُقد برعاية تركية. كذلك رعَوا عمليات تهجير قسرية في العديد من المناطق السورية نحو الشمال السوري، وقاموا بالسيطرة على مساحة واسعة من البادية السورية وتدمر. ومنذ مطلع العام 2017، عمدت روسيا، بمساعدة دول عدة، على إبرام اتفاقيات لـ “خفض التصعيد” في مختلف المدن السورية التي تُسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة.

تحدثت منظمات ومراصد حقوقية دولية عن انتهاكات واسعة قام بها الروس في سورية، أسفرت عن سقوط أعداد كبيرة من القتلى في صفوف المدنيين، فضلًا عن تسببهم بدمار كبير أصاب مؤسسات خدمية حساسة مثل الأفران والمشافي ومراكز الإسعاف وغيرها.

ووفق تقرير نشرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بمناسبة مرور عامين على التدخل، فإن “أكثر من 5233 مدنيًا قُتلوا منذ بداية التدخل الروسي في سورية، بينهم 1417 طفلًا، و868 امرأة، فضلًا عن ارتكاب 251 مجزرة”، كما سجّل التقرير “707 حادثة اعتداء على مراكز حيوية، منها 109 مساجد، و143 مركز تربية، و119 منشأة طبية”.

وخلال عامين “استخدمت القوات الروسية الذخائر العنقودية أكثر من 212 مرة، معظمها في محافظة إدلب، وأكثر من 105 مرات للذخائر الحارقة، معظمها في محافظة حلب”. وجاء في تقرير الشبكة أيضًا أنَّ القوات الروسية “نفذَّت منذ تدخلها مئات الهجمات غير المبررة، التي أوقعت خسائر بشرية ومادية فادحة، تركَّزت في معظمها على مناطق تخضع لسيطرة فصائل في المعارضة المسلحة بنسبة تُقارب 85%”. وأضاف التقرير أنَّ “العدد الأقل من الهجمات كان من نصيب المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة (داعش) بنسبة تقارب 15%. وحتى في مناطق سيطرة (داعش)، فقد تم تسجيل عشرات الحوادث لقصف مواقع مدنية، ما خلَّف وقوع مجازر بحق سكان تلك المناطق”. وقدَّم التقرير إحصائية عن قيام القوات الروسية بـ “قتل 47 شخصًا من الكوادر الطبية، بينهم 8 سيدات، إضافة إلى 24 شخصًا من كوادر الدفاع المدني، و16 من الكوادر الإعلامية”، وأكّد أن الهجمات الروسية “تسببت في تعرُّض ما لا يقل عن 2.3 مليون شخص للنزوح هربًا من عمليات القصف والتدمير”.

مقابل ذلك، قالت وزارة الدفاع الروسية، بعد مرور عامين على التدخل، إنها منعت تقدّم (داعش) و(جبهة النصرة)، وإنها قتلت وجرحت آلاف المسلحين، نتيجة الضربات التي نفذتها القوات الجوية الروسية، منهم متشددون جاؤوا من روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق. ووفق تقرير لها بمناسبة مرور عامين على التدخل العسكري، فإن هذا التدخل “مكّن روسيا من تحرير 87.4% من الأراضي السورية من (داعش)” وجرى منذ بدء العملية تنفيذ “أكثر من ثلاثة آلاف طلعة جوية قتالية، شنت خلالها 92000 غارة أدت إلى تدمير 96828 هدفًا، بينها 8330 مقر قيادة، و5370 تجمع مقاتلين، و6770 مستودعًا للذخيرة والمحروقات”.

لكن أرقام وزارة الدفاع الروسية، حتى لو كانت صحيحة، قد تسببت بمقتل آلاف المدنيين وتدمير مئات المنشآت والحواضر والبنى التحتية في القرى والمدن التي دكّتها قذائف موسكو.

وفق تقرير لمنظمة (إيروارز) التي ترصد وتراقب الخسائر المدنية للغارات الجوية الدولية في العراق وسورية وليبيا، فإن “الضربات الجوية الروسية التي قصفت مناطق يسيطر عليها (المتمردون) في سورية منذ عام 2015 مسؤولة عن مقتل آلاف المدنيين، وقد تُشكّل هذه الهجمات العشوائية على السكان المدنيين جرائم حرب”.

ثانيًا: فئران لحقل تجارب روسي

استفادت روسيا من تدخلها في سورية لتجربة أنواع جديدة من الأسلحة في ظل ظروف حرب حقيقية، وهو ما أشار إليه وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، حين أطلقت أربع سفن من بحر قزوين 26 صاروخًا من طراز (كاليبر) على مواقع (داعش) في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، إذ قال إن القصف “جرى لأول مرة، ضمن ظروف حرب حقيقية من على متن قطع في بحر قزوين، وباستخدام صاروخ (كاليبر) لأول مرة”. وبهذا اعترفت روسيا أن سورية صارت ساحة لتجريب أسلحة سوق السلاح الروسي، وهو أيضًا ما أكّده سيرغي غوريسلافسكي، نائب رئيس شركة (أوبورون إكسبرت) الذي أشار إلى “ارتفاع الاهتمام بشكل ملموس في العالم بالأسلحة الروسية بفضل العملية العسكرية في سورية”.

وفي بداية شهر أيلول/ سبتمبر 2017، قال أندري تيرليكوف، المدير العام لمكتب الخدمات الهندسية للنقل في (أورال)، “لقد تم اختبار المركبة المقاتلة (تيرميناتور) في سورية”. كما قال رئيس اللجنة العلمية العسكرية التابعة للقوات المسلحة الروسية الجنرال إيغور ماكوشييف “إن الخبراء العسكريين الروس، أجرَوا خلال العام الماضي، اختبارات على استخدام أكثر من 200 نموذج من الأسلحة في سورية، وبفضل ذلك جرى تعديل الخطط اللازمة لتطوير وتحديث نظم الأسلحة”.

في تعليقها على مرور عامين على التدخل الروسي العسكري المباشر في سورية، قالت صحيفة (روزفيزنا) الروسية، المقربة من دوائر صنع القرار في موسكو، إن مهمة القوات الروسية في سورية هي “أكبر مهمة عسكرية في عصر روسيا الحديثة”، وأنها “نوع من أنواع الاختبار الحقيقي والفرصة المذهلة لقياس القدرات القتالية للجيش الروسي، وأتيح لروسيا اختبار أحدث الأسلحة في ظروف القتال”، وأشارت إلى أن حجم العسكريين الذين أوفدتهم روسيا إلى سورية لا يمكن مقارنته بما سبق من معارك شنتها في طاجيكستان في التسعينيات، وفي أوسيتيا الجنوبية عام 2008.

كذلك اعترفت وزارة الدفاع الروسية في نشرةٍ لها بأن المشاركة العسكرية في سورية سمحت لها بالتحقق من الاستعداد القتالي لجميع الطيارين العسكريين تقريبًا، وأن ما يقارب من 90 في المئة من أفراد القوات الجوية تلقّوا خبرة قتالية في سورية.

وجاء في تقرير لوكالة الأنباء الروسية (سبوتنيك) بمناسبة مرور عامين على التدخل العسكري الروسي في سورية، أن روسيا “اختبرت” أحدث أسلحتها منذ تدخلها العسكري، وأحصت الوكالة قيام روسيا باختبار 162 نموذجًا من الأسلحة الحديثة والمتطورة.

وفق التقرير، جرّبت روسيا قاذفات القنابل SU24-M والطائرة الهجومية SU25-M، وطائرات SU35-S والطائرة SU27-M3K وأحدث صواريخ جو- جو متوسطة المدى، والصواريخ المضادة للدبابات BTR-80 (شتورم)، والمنظومة المضادة للدبابات (فيخر)، وصواريخ X25-M وL29-T (جو سطح)، والقنابل كاب-500ل وكاب-500كي.آر، والمتفجرة بيتاب 500، والصواريخ المجنحة X101K، ومروحيات MI-8 وMI-24 وMI-28، ومروحيات Ka-25، وصواريخ S300، وS400، والمنظومة الإلكترونية سفيت- كو التي تُستخدم لحماية قنوات الاتصالات اللاسلكية وحماية المعلومات.

وتعتبر مرحلة تجريب الأسلحة مسألة في غاية الأهمية بالنسبة إلى سوق السلاح العالمي، خاصة عملية تجريب هذه الأسلحة في ظل ظروف قتال حيّ وحرب حقيقية، من أجل التسويق الأفضل لهذه المنتجات دوليًا، حيث تجد روسيا في سورية أحسن وأرخص حقل لهذه الغاية، ويبدو أنها تتعامل مع المدنيين السوريين كفئران تجارب في عملياتها، ليس أكثر.

بحسب تقارير عديدة، سجلت الإحصاءات الأخيرة تزايدًا ملحوظًا في الطلب على الأسلحة الروسية، حتى بلغ أعلى مستوى له منذ عام 1992، وتم التوقيع، في العام الماضي فقط، على عقود لتصدير أسلحة بقيمة تتجاوز 26 مليار دولار.

ووفقًا لتقييمات وسائل الإعلام الروسية، أنفقت موسكو حتى الربع الثالث من العام الماضي، نحو نصف مليار دولار على عمليتها العسكرية في سورية، في المقابل حصلت على دعاية درّت عليها أرباحًا تقدر بما بين 6 و7 مليارات دولار.

ويُشار إلى أن مشروع الدولة الروسية المُعلن يقضي بتحديث القوات المسلحة، وينص على تجديد 70 في المئة من المعدات العسكرية بحلول عام 2020. ومن المفترض التخلي عن الأسلحة القديمة التي لم تعد تعني شيئًا في عالم السلاح الحديث، ووضع الأسلحة الجديدة قيد الاستخدام بعد إخضاعها لتجارب ميدانية عديدة.

ثالثًا: قواعد ثابتة وبنى عسكرية دائمة

تمكنت روسيا خلال عامين من جني ثمار عسكرية واستراتيجية واقتصادية، نتيجة تنازل النظام السوري وتسليمها زمام الأمور بإبرامه معها اتفاقيات، هي أقرب ما تكون إلى “اتفاقيات إذعان”، المُعلن منها اتفاقية لإقامة قاعدتين عسكريتين على المتوسط، الأولى جوية في مطار حميميم في محافظة اللاذقية، والثانية بحرية في محافظة طرطوس، وكلاهما لمدة نصف قرن قابلة للتمديد تلقائيًا.

وفي الحصيلة الأخيرة، أقامت خلال هذين العامين عدة قواعد عسكرية، بحرية وبرية وجوية. فقد صادق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 على اتفاق بين دمشق وموسكو بشأن نشر قوات جوية روسية في قاعدة حميميم “لفترة غير محددة”، وهي القاعدة التي اعتمدتها روسيا قاعدة رئيسية لها، ولسلاح الجو الروسي الحربي والمروحي، وعززتها بمضادات أرضية (S300)، لتصبح منطلقًا لآلاف الغارات الجوية ضد فصائل المعارضة السورية، والتي تقول إنها تستهدف من ورائها “التنظيمات الإرهابية”، في حين نسبت منظمات حقوقية محلية ودولية عشرات المجازر بين صفوف المدنيين لقواتها. وفي 23 كانون الأول/ ديسمبر 2016، وقّع بوتين أمرًا رئاسيًا يقضي بتوقيع اتفاقية بين روسيا وسورية بشأن توسيع القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، غربي سورية، لتأمين احتياجات السفن الحربية الروسية، وهي القاعدة التي كانت تضم بالأساس منشآت عسكرية روسية لصيانة هذه السفن ومركزًا تموينيًا لها. وكانت قد أعلنت قبل ذلك، في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2015، عن تجهيز مطار الشعيرات بحمص ليكون قاعدة عسكرية لها أيضًا. كما أعلنت، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، عن تشغيل منظومة صواريخ (إس400) في سورية، تبعها، في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، الإعلان عن نشر أنظمة للدفاع الجوي من طراز (إس300) في محافظة طرطوس.

حصلت روسيا من الأسد على تنازلات هائلة من وراء هذه الاتفاقيات، لدرجة أنه لا يُسمح للسلطات السورية، لا الآن ولا في المستقبل، بدخول الأماكن التي ترابط فيها قوات روسية، ولا يخضع الجنود الروس للقوانين السورية، ولا تخضع كل الشحنات الروسية لأي تفتيش من قِبل الجمارك السورية.

وعلى الرغم من أن روسيا كانت تتوقع أن تدوم عملياتها العسكرية في سورية ثلاثة أشهر فقط، إلا أن وجودها في هذا البلد تحوّل إلى وجود شبه دائم بعد توقيع تلك الاتفاقيات طويلة الأمد التي كان من نتاجها قتل آلاف المدنيين السوريين بشتى أنواع الأسلحة الروسية الفتاكة.

في المقابل، أنقذت موسكو الأسدَ من هزيمة محققة وفق اعتراف وزير خارجيتها، سيرجي لافروف، الذي نبّه إلى فضل بلاده الأول في إنقاذ الأسد من السقوط. وسمحت موسكو لنفسها بالاستفراد بالقوة والسيطرة، وإخضاع كل عملية التفاوض ومصير الأسد لمنطق الابتزاز، واستخدمت الفيتو غير مرّة لنفس السبب، كما هو معروف، وحاصرت الوضع السياسي بما يتناسب وسيطرتها على القرار العسكري في دمشق، وبات لخطاب موسكو منطق “المحتل المنتصر” في ساحة المعركة، والذي من حقه فرض الشروط والضغوط في المجال السياسي.

رابعًا: التدخل ومواقف الأطراف

في 30 أيلول/ سبتمبر 2015، بدأت روسيا تدخلها العسكري المباشر في سورية، بعد موافقة مجلس الاتحاد الروسي على القيام بعمليات عسكرية هناك. ومنذ ذلك الحين، تغيرت المعادلات على الأرض بشكل جذري، حيث أصبحت طرفًا فاعلًا في الساحة الحربية في سورية، وطرفًا في القتال، ووسيطًا يتفاوض، وممثلًا يعقد الهدن والاتفاقيات بدلًا عن النظام السوري.

وقف بوتين إلى جانب الأسد منذ بداية الثورة السورية، وقدم له دعمًا عبر تسليح قواته، وحماه في مجلس الأمن، ودعمه اقتصاديًا، ورسّخ الوجود العسكري الروسي في سورية، على الأقل لـ “تسعة وأربعين عامَا مقبلّا”، بموجب الاتفاقية العسكرية التي وقّعها النظام مع الروس، وهو أكبر وجود عسكري روسي في الخارج منذ زمن الاتحاد السوفياتي السابق وحتى اليوم، كما ضمن لروسيا نفوذًا شبه دائم في الشرق الأوسط.

وخلال سنتين، تغيرت معادلة العلاقة الروسية- التركية، بعد أن أسقطت تركيا طائرة روسية في الأجواء السورية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، وتحولت تركيا إلى خصم لروسيا. لكن، وبعد توافقات خاصة فيما بعد بين البلدين، تحولت العلاقة من خصومة إلى شراكة وتعاون على أكثر من صعيد، وخاصة في ميدان القضية السورية، ورعت روسيا وتركيا، ومعهما إيران، نظام “خفض التوتر” في أربع مناطق في سورية، تم اعتمادها مطلع العام الحالي.

لم يكن التدخل الروسي في سورية فعلًا سارًا للمعارضة السورية، إذ اعتُبرت روسيا مُحتلة منذ الأيام الأولى للتدخل، ذلك لأن تجربة المعارضة السورية مع الروس في الفترة ما بين انطلاق الثورة وحتى التدخل العسكري المباشر، كانت تجربة مريرة، تؤشر سلفًا إلى ما سيحمله هذا التدخل من المزيد من الدعم للنظام والاستخفاف بالمعارضة وعدم الاكتراث بالقتل والتدمير الذي تسبب به النظام خلال زمني الثورة والحرب.

بعد معركة حلب، أدركت روسيا أن الغطاء الجوي غير كاف للسيطرة على الأرض، فاضطرت، بسبب عدم ثقتها بالنظام وبحلفائه، خاصة إيران وحزب الله، إلى إرسال خبراء عسكريين وقوات خاصة روسية للعمليات البرية، تحت راية شرطة عسكرية روسية، كما أرسلت مرتزقة متعاقدين مع وزارة الدفاع الروسية، كعناصر شركة (فاغنر) العسكرية الروسية الخاصة. ثم وجدت المعارضة السورية نفسها مضطرة إلى الدخول في مفاوضات مع النظام ترعاها روسيا في أستانة، أملًا في تنشيط المسار السياسي.

من جهتها، كانت الولايات المتحدة تمر بمرحلة مضطربة ما بين رئيسين وإدارتين، ومرحلة انتخابات تدفع المرشحين للرئاسة للالتفات إلى الوضع الداخلي أكثر من الخارجي، وتجميد كل المبادرات والفاعليات العسكرية الخارجية إلى الحد الأدنى طالما أنها لا تمسّ بالأمن القومي الأميركي، ولم يكن بالأساس لإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أي رغبة بالتورط في الحرب السورية الطاحنة، خاصة أنه حقق صفقة سحب السلاح الكيماوي من النظام السوري، كما أن الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، لم يكن معنيًا كثيرًا بالحرب السورية، وسلّم بالدور الروسي في سورية، ولم يكن يهمه شيء سوى محاربة الإرهاب (الإسلامي) والقضاء على تنظيم (داعش) الإرهابي.

لم يُبدِ الأميركيون اعتراضًا على التدخل الروسي العسكري المباشر في سورية، وكانت علامات الموافقة الأميركية على هذا الوجود هو التوجّه الأميركي للتفاهم حول معالم الحل السوري، أو بالأدق ملامح توزيع النفوذ والتوازنات، في محطات لقائي فيينا 1 و2 والقرار الدولي 2254 الذي قاد إلى جنيف 3 في كانون الثاني/ يناير 2016، وحاولت الولايات المتحدة “إغراء” الروس بشكل غير مباشر بـ “مكافأة” في سورية، مقابل ابتعادها عن الصين وإيران، باعتبار الأخيرتين “خطرًا رئيسيًا” وفق المنظور الأميركي، وباعتبار أن سورية ليست بتلك الأهمية الاستراتيجية بالنسبة إلى الأميركيين، وكذلك فإن بقاء الأسد في السلطة أقل كلفة بالنسبة إليهم من شن حرب عليه. لذا، يُعتقد على نطاق واسع أن واشنطن لا تُمانع أن يكون جزء كبير من سورية مجالًا للنفوذ الروسي، وأن التحرك والتدخل الروسي في سورية كان وسيبقى تحت سقف الولايات المتحدة رغم عدم التنسيق والاتفاق الكامل بين البلدين.

أما دول الخليج التي دعمت المعارضة السورية بقوة، وبأكثر من وسيلة، فقد أُسقط في يدها بعد أن صارت روسيا الآمر الناهي عسكريًا في سورية؛ ووسط خذلان الحليف الأميركي، واضطراب العلاقة الخليجية البينية، بدأت تُفكّر في تغيير بعض استراتيجياتها المتعلقة بالمسألة السورية.

كذلك الأردن، استطاع استثمار علاقاته الوثيقة مع واشنطن وموسكو في الوقت نفسه لتأمين حدوده الشمالية، وإحياء اتفاق وقف إطلاق للنار في جنوبي سورية، يضمن الحدود البرية الأردنية الشمالية، وهذا أقصى ما يطمح له الأردن على المدى المنظور.

أما إيران، فقد صعد نجمها وهبط، حيث يحاول الروس ترضيتها بإشراكها كوسيط وضامن في اتفاقيات أستانا، واتفاقيات وقف إطلاق النار والهدن. وفي نفس الوقت تسعى موسكو لتحجيم القوة الإيرانية، ووقف التغلغل الإيراني العسكري والسياسي في سورية، لكن هذا المنع مازال يعتمد على مؤشرات وليس على حقائق راسخة يمكن من خلالها التأكد بأن الدور الإيراني في سورية هو دور غير مرغوب بشكل قاطع من قبل روسيا.

خامسًا: ما لم يُنجز

استخدم الروس الفيتو في مجلس الأمن الدولي لأول مرة في 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 ضد قرار يدين النظام السوري، في محاولة لفرض أنفسهم قطبية ثانية في مواجهة الولايات المتحدة، وكرّت السبحة ليصبح استخدام الروس الفيتو ضد أي قرار يمكن أن يدين النظام السوري أمرًا روتينيًا، حتى لو كان الأمر يتعلق بضرورة إيصال مساعدات إنسانية للمحتاجين إليها في سورية.

المحطة الثانية في “سجلّ” الروس في سورية بعد الثورة كانت رعاية اتفاق “سحب السلاح الكيماوي” في 14 أيلول/ سبتمبر 2013، والذي قاد إلى القرار الدولي 2118 الذي تبنى بيان جنيف 1، ثم قاد إلى سلسلة مؤتمرات جنيف، التي بدأ الروس في عام 2016 بالانقلاب عليها. ففي كانون الثاني/ يناير 2017 بدأوا بالترويج لمسار سياسي يوازي المسار العسكري، وعقدوا ست جولات مفاوضات في أستانا، وتوصلوا بالتعاون مع تركيا وإيران إلى ما أطلقوا عليه “مناطق خفض التوتر” التي لا تشمل مناطق سيطرة (تنظيم الدولة الإسلامية)، إلا أن مناطق خفض التوتر هذه لم تسلم من ضربات نفذتها طائراتهم وطائرات النظام، ولم تسلم من هجمات لقوات النظام البرية والميليشيات الموالية والتابعة لإيران، وأدينت روسيا من قبل منظمات حقوقية، محلية ودولية، بارتكاب جرائم حرب في سورية بسبب استخدامها قنابل عنقودية وفوسفورية وأسلحة محظورة دوليًا.

الأمر الذي قد يُقلق روسيا هو اعتقادها بأن الولايات المتحدة لن تبقى على موقفها غير المبالي بما يحدث في سورية على المديين المتوسط والطويل، كذلك يُقلقها احتمال تكبّدها خسائر كبيرة في الأرواح بين جنودها وضباطها وطياريها، لأن المعلن هو مقتل 30 عسكريًا روسيًا فقط، وإن كانت “رويترز” تظن أن العدد أربعة أضعاف هذا الرقم، وهو أمر قد يحصل فيما لو استمر الوضع السوري على ما هو عليه دون حل سياسي واضح وقابل للتطبيق.

تحاول روسيا التملص من بيان جنيف1 عبر التذرع بتغيّر الأوضاع الميدانية على الأرض، لكن كون هذا البيان هو نتاج توازنات إقليمية وأوربية ودولية، يجعلها مستمرة في التزامه، ولا تقدر على رفضه أو نسفه من أساسه.

أغلبية الأهداف الروسية لم تُنجز بعد، فالنظام السوري يبدو أنه “صامد” لكن الخطر لم يزل عنه، وقوته في تآكل مستمر، كذلك لم يستطع الروس تحجيم التدخل الإيراني، خاصة أن السياسة الإيرانية متلونة، وتتغير وفق الظروف، وهي بدأت تنتقل من مرحلة السيطرة العسكرية على الأرض إلى مرحلة السيطرة الاقتصادية والتغلغل في نسيج المجتمع السوري.

كما أن غرق موسكو في “مستنقع أفغاني” جديد أمر وارد، ولاحت معالمه في وقت سابق عندما زاد عدد القتلى من العسكريين الروس في سورية، بعدما كان الضحايا من موظفي شركة (فاغنر) الأمنية الروسية فقط، خاصة إذا كان هناك فخ يُنصب لها بشكل غير مباشر من الولايات المتحدة.

قد تمتلك روسيا القدرة العسكرية لإدارة حرب معقدة مثل الحرب السورية، لكنها في رأي المعارضة السورية تفتقر إلى الحد الملائم من التخطيط الذي يجعل أهدافها السورية المباشرة قابلة للتحقيق، ولا تملك القدرة السياسية على رسم استراتيجيات سلام بعيدة الأمد، تحقق مصالح الشعب السوري والمصالح الروسية في الوقت نفسه، خاصة عندما يجري الحديث عن كسب روسيا النظام السوري الذي لم يعد مقبولًا دوليًا، مقابل خسارتها صداقة الشعب السوري ودعمه.

ويبقى أحد المفاصل المهمة والمؤثرة في مجريات حوادث الشرق الأوسط، وهو “إسرائيل”، التي يحاول الكرملين عقد شراكة عميقة معها، لكن مهما تعمّقت تبقى لا توازي جزءًا صغيرًا من الشراكة المتجذرة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”.

يزعم الروس أنهم حققوا مكاسب في علاقتهم مع تركيا والسعودية، لكن هذه المكاسب كان يمكن تحقيقها دون حروب ومآسٍ وتكاليفَ باهظة، ودون التدخل العسكري المباشر في سورية.

تستطيع موسكو الآن القول إن لها نفوذًا عند السلطة والمعارضة، لكن هذا الادعاء غير دقيق، فالمعارضة السياسية السورية غير متوافقة مع موسكو، ولا تُنسّق معها، وخاصة ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية والهيئة العليا للمفاوضات، على الرغم من ازدياد الفاعلية الروسية بعد التقارب مع تركيا والسعودية خصوصًا، كما أن الفصائل العسكرية المنخرطة في اتفاقيات أستانا يمكن أن تنقلب عليها لأن أغلبية أمراء هذه الفصائل لا همّ لهم سوى ضمان حصتهم في الترتيبات المقبلة.

قد تُرغم التوافقات الدولية والإقليمية الروس على التزام موقف وسطي في معايير التسوية السورية، خاصة مع إدراكهم المتزايد أن النصر العسكري وحده لا يمكن أن يقود إلى استقرار راسخ وطويل المدى، بل لا بد أن يرتبط عاجلًا أم آجلًا بمفاوضات سياسية فيها الكثير من التنازل لكل الأطراف وعلى رأسها النظام.

كذلك، لا بدّ من الأخذ في الحسبان أن روسيا غير قادرة، اقتصاديًا وتقنيًا، على الاستمرار برمي مئات الأطنان من الأسلحة كل يوم، خاصة وأنها مُكلفة من جهة، وتُعاني عيوبًا تجعلها أشبه بالذخائر العمياء، وتتسبب بسقوط ضحايا كثر من جهة ثانية، وقد يتسبب هذا بخسائر لحلفائها على الأرض، ووفق ما قال رسلان بوخوف، مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيات في موسكو، فإن العمليات في سورية أظهرت بعض العيوب في الأسلحة وأساليب القتال الروسية، وفي مقدمتها ضعفها في إصابة أهداف متحركة وكثرة أعداد الضحايا نتيجة القصف، كما تواجه روسيا مشكلة عدم توفر ذخيرة من الإنتاج المتسلسل لإصابة أهداف متحركة.

سادسًا: خاتمة

بعد عامين من تجربة الغزو الروسي لسورية، واستخدام قوة نارية هائلة، يبقى موضوع نجاح روسيا في إحياء دور الأسد أمرًا مشكوكًا فيه، وسيبقى حسابات لا تتطابق مع المنطق ولا التاريخ ولا الواقع، ولابد من أن ينتبه الروس إلى أنه إذا كانت “الامبراطورية” السوفياتية بقوتها وعظمتها انهارت بعد سبعة عقود من تأسيسها، فإن الوجود الذي أحرزوه في سورية التي غدت “مستعمرة” لهم، وفي المنطقة، لن يمنحهم أكسير الحياة، خاصة بوجود شركاء لهم على شاكلة النظام السوري وإيران، وكلاهما مستعد بكل بساطة للتآمر عليهم، والانقلاب على أي تفاهم أو توافق، وأيضًا بوجود ملايين المتضررين من حرب افتعلها النظام ودمّر فيها سورية وقضى على أهميتها الشرق أوسطية لعقود طويلة.


مركز حرمون للدراسات المعاصرة


المصدر
جيرون