(مصطفى) قصة على هامش الحرب



كنتُ مترددة في سؤاله عن إعاقته، لا أريد إيقاظ الألم في نفسه، فهو يعيش استحقاقات المراهقة بكل أعبائها مع قدمٍ بترتها البراميل. من أين ابدأ قصة (مصطفى) اليافع الذي أدهشني بابتسامته الواثقة، لقد مرت أربع سنوات على خسارته ساقه، لكنه أجابني: “نعم كنت أخجل من إعاقتي، ولا أريد أن يعرف الآخرون أنني أضع قدمًا اصطناعية، وكان الأولاد يتجنبون السير معي، أما اليوم فقد تغيّر كل شيء؛ لقد وضعت لنفسي قاعدة: لا يوجد شيء صعب.. المهم أن تبذل جهدًا في مواجهة التحدي”.

تروي والدته القصة لـ (جيرون): “كان (مصطفى) يجلس بجوار عمه في حلب، عندما سقط برميلٌ قتل عمه، وأصيب مصطفى إصابات بالغة في ساقه ودخلت الشظايا في بطنه، ونظرًا إلى صعوبة إسعاف المصابين في سورية، وضعف الرعاية الصحية؛ أُصيبت ساقه بـ “الغرغرينا” وتم بترها، من ثمّ أُرسل إلى مدينة الريحانية لتركيب طرف اصطناعي، وعاد إلى سورية، لكن والده لم يلبث أن توفي بجلطة قلبية”.

أضافت الأمّ: “ذهب والده للعمل في الليل، بسبب ظروف القصف بحلب، حيث أصبح الرجال يعملون ليلًا في المطاحن، وفي الصباح أُبلغتُ نبأ وفاته”. بعد فقدان المعيل؛ اضطرت عائلة (مصطفى) إلى النزوح إلى تركيا، حيث استقرت في مدينه كلّس الحدودية، لم تقتصر معاناة أم مصطفى على ذلك، فثلاثة من بناتها أعمارهن (18-15-11) يعانين من إعاقة ذهنية ومحرومات من أي دعم، فلم تقدم لهن أي جهة خدمات أو رعاية خاصة بذوي الإعاقة، هي وحدها من يتكفّل برعايتهن، وهو حمل صعب وقاسٍ في ظل ظروف النزوح والفقر الشديد، لذا اضطر (مصطفى) إلى العمل -على الرغم من إعاقته- في توزيع الخبز، مقابل أجر زهيد (45 ليرة في الأسبوع) ليساعد في إعالة أسرته.

انقطع (مصطفى) عن الدراسة، بسبب الحرب والنزوح المتكرر كغيره من آلاف الأطفال السوريين، لذا كانت الفرصة التي قدمتها (دار كريم) لرعاية الأيتام نافذةَ أملٍ للمستقبل، لأنها وفرت له فرصة للتعليم واكتساب المهارات المتنوعة. في هذا الجانب، أوضحت أم مصطفى أنها فضّلت “أن تضحي بعمل ابنها مقابل أن ينال فرصته في التعليم”، وأضافت بلهجة يصبغها الفخر: “مصطفى ذكي، ولديه طموح”.

قال (مصطفى): “إن دار (كريم) كان لها فضل في تنمية طموحه وشخصيته، من خلال برامج الدعم النفسي والتعليم، حيث عملت الدار، في مشروع (آمال) للدعم التعليمي”.

التحق (مصطفى) ببرنامج الدعم التعليمي، وبفضل اجتهاده وتشجيع معلماته له؛ اجتاز ثلاث مستويات لتسريع التعليم؛ الأمر الذي أهّله إلى العودة للتعليم النظامي، والتحق بمدرسة لتعليم السوريين، وهو اليوم في الصف الثامن، قال: “عندما بدأتُ في برنامج التعليم كان طموحي ضعيفًا، أما اليوم فلدي طموح بلا حدود.. أريد أن أتعلم كل شيء”.

العودة للتعليم فتحت أمام (مصطفى) ورفاقه آفاقًا جديدة، فقد تدرّب على التصوير الفوتوغرافي ومهاراتٍ متنوعة أخرى، وعلى الرغم من ضعف خلفيته التعليمية إلا أنه استطاع أن يدرس اللغة الإنكليزية، ويؤكد أساتذته أنه “يعرف جيدًا ما يريد، ولديه هدف، كذلك لم تؤثر إصابته على علاقته بأصدقائه؛ إذ إنه يتمتع بشخصية قيادية وينال احترامًا من أقرانه”.

عن الآثار النفسية التي سببتها إصابة (مصطفى) وبتر ساقه، قالت والدته: “إنه كان يعاني من خجل من إعاقته، ولا يريد أن يعلم بقصة ساقه أحد، لذلك كان عندما يعود للمنزل ويخلع الساق الاصطناعية، يرفض الخروج إلى الشارع بالعكازات”.

كما لاحظ القائمون على دار الرعاية أنه يستيقظ باكرًا ليضع الطرف الصناعي، حتى لا يشاهده الأطفال الآخرون في الدار، لكن الذي حدث في هذا الصيف أن ساقه أصيبت بالتهابات، وأصبح من غير الممكن أن يستخدم الطرف الصناعي، حيث طلب منه الطبيب استخدام العكازات ريثما تُشفى ساقه، هذه الحادثة كانت فرصة لمصطفى ليواجه خجله، قال: “ماما إيلاف (مسؤولة في دار كريم) أقنعتني بأنني شخص كامل، وليس علي أن أشعر بالحرج”.

كانت دهشة أم (مصطفى) كبيرة، عندما زارها في العيد، وهو يستخدم العكازات، وقام بزيارة الجيران والأقارب، تقول: “لقد تغير كثيرًا وأصبح أكثر صلابة وثقة بنفسه”.

تخلّف الحرب آثارًا عميقة في نفوس الكثير من الأطفال من اضطرابات نفسية، وتكون هذه الآثار ظاهرة بشكل أوضح، لدى الذين يعانون من بترٍ في الأطراف، وهذا يتطلب المزيد من برامج الصحة النفسية والجسدية، ويؤكد الأطباء أن “بتر الأطراف لدى الأطفال ينطوي على تبعات أكثر خطورة من تلك التي يعاني منها الأشخاص البالغون؛ ذلك أن الطفل في نمو مستمر، وبالتالي يحتاج إلى فحص كل تسعة أشهر، للتحقق من مدى توافق الطرف الصناعي، وبسبب الفقر وانهيار الخدمات الصحية في سورية بفعل الحرب؛ يصبح الحصول على طرف صناعي حلمًا، نظرًا إلى ارتفاع ثمنه وقلة المراكز المختصة بتركيب الأطراف الصناعية”.

قصة (مصطفى) وأسرته هي واحدة من مئات القصص التي تلقي الضوء على واقع معوقي الحرب، وأسر ذوي الإعاقة في سورية، ويمثل معوقو الحرب فئات واسعة من المجتمع السوري، وتختلف الإعاقات من بتر الأطراف وتشوهات خطيرة وشلل وتعطل الوظائف الحيوية والإصابات الدماغية، وتعد معاناة معوقي الحرب مضاعفة، في ظل غياب الدعم المادي والنفسي وبرامج التأهيل.

وفقًا لمنظمة (هيومن رايتس ووتش)، “يواجه المعوّقون مشكلات أكبر، تتعلق بالهجر والإهمال وعدم المساواة في الحصول على الغذاء والرعاية الصحية، في أثناء النزاع، فهم الفئة الأضعف”. تبلغ النسبة العالمية للإعاقة قرابة 15 بالمئة، وهذه النسبة ترتفع في الحروب إلى 30 بالمئة، وقد ورد في التقرير العالمي حول الإعاقة لعام 2017 الصادر عن (منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي) “أن 15 بالمئة من سكان العالم يعانون شكلًا من أشكال العجز”.

لا يوجد إحصاءات دقيقة ونهائية لذوي الإعاقة في سورية، لكن في إحصاء صادر عن (هيئة الطب الشرعي) لعام 2015، “يوجد نحو مليون ونصف مليون طفل فقدوا أطرافهم، فضلًا عن آلاف الأطفال الذين أصيبوا بشلل الأطفال”، كما جاء في التقرير الصادر عن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، لهذا العام، أن “2.8 مليون سوري يعانون من إعاقة جسدية دائمة“.

إن الواقع الصعب لذوي الإعاقة السوريين يستلزم تضافر جهود الجهات المعنية من المنظمات الإنسانية والمجالس المحلية، للعمل على وضع خطة وطنية لتقييم ورصد احتياجات ذوي الإعاقة، والتأكيد على مبادئ أساسية تضمن سهولة الوصول إلى المساعدات والرعاية الصحية، وتوفير خدمات الإرشاد والدعم النفسي لذوي الإعاقة، والخطوات الأولى في هذا المجال ينبغي أن تركّز على تغيير الثقافة والنظرة المجتمعية إلى ذوي الإعاقة، والعمل على توعية جميع الأطراف من العاملين بمنظمات الإنسانية وفعاليات المجتمع المحلي، بشأن حقوق وتدابير حماية وسلامة ذوي الإعاقة.

ومن الأهمية بمكان، العمل الآن على توفير التعليم لذوي الإعاقة، من خلال مشاريع تعليمية دامجة، والعمل على تدريب المعلمين، وخلق بيئة صفية مناسبة لاستيعاب الأطفال من مختلف الإعاقات؛ لوقف الهدر الاجتماعي لهذه الطاقات.


كبرياء الساعور


المصدر
جيرون