صباح الياسمين يا فراشة الحب



صباح الياسمين يا فدوى، ياسمين الشام الذي حملتِه في قلبكِ قبل أن تغادري سورية، وأراه ينبت على أطرافكِ ومن مسام جلدك بعد شهرين من رحليك الصامت الجليل في فرنسا. سامحيني، إن تأخرت بإرسال تلويحة الوداع لعينيك الدافئتين، كنت أقتفي أثرك بين أوراقي وعلى صفحات الإنترنيت، وأعيد سماع صوتك، قراءة نصك يا فراشة الأمل والحب، كم أحرقتكِ عتمة الطغاة؟

في زمن الخوف، شاهدتكِ في فيلم (نسيم الروح)، وتابعت حضوركِ على المسرح منذ (سفر برلك) وحتى (صوت ماريا)، وفي العرض الأخير كنتِ سيدة الفضاء، تخلطين رموز الحياة والموت على سرير المرض في مصح الأمراض النفسية، كنتِ فنانة تشكيلية اغتُصبت وابنتها الوحيدة في أثناء الحرب، حملتْ ابنتكِ من الجاني، وماتت في أثناء الولادة، وتركت بين ذراعيكِ ثمرة الجريمة البشعة. كان قهركِ عظيمًا، والصراع في داخلك لا يُحتمل، تدركين أن خلاصك في الرسم، وما إن تمسكين الريشة، حتى تعاودك الكوابيس وصور الرعب. كنتِ شعبًا مستباحًا، وتركتِ خلفكِ السؤال: من سينتصر الفن أم الحرب، الإنسانية أم الوحش؟

سؤالٌ -على بداهته- لا يزال معلقًا، وسيبقى ما دامت تحكمنا سياسة الإفلات من العقاب، سؤالٌ أردتِ أن تجدي له إجابات محددة وواضحة عبر المقاومة السلمية منذ بداية الثورة؛ كي ينتصر الفنان فينا، وتنتصر الإنسانية على دكتاتور يهدر دمها، ولن أصف كيف خطفتِ قلوب الآلاف منا في المظاهرات، يلفتني المزيج الرصين من الهشاشة والصلابة الذي يطلُ منكِ، وتلفتني قدرتك على الدفاع عن قضيتنا، في كل مكان، وعبر كل الأشكال الممكنة.

قلّبتُ أوراقكِ لأكتشف السر وقرأتُ: “أنا بنت أسرة كبيرة فقيرة في الساحل السوري، تيتمتُ باكرًا، وأحس -أحيانًا- بأنني أنا مَن ربيتُ نفسي بنفسي، في مجتمع ذكوري يُباح فيه للرجل كل شيء، ليتوهم الأفضلية والتفوق على المرأة.. حتى في الساحل الذي قد يظنه البعض متحررًا اجتماعيًا”، وفي طفولتكِ حين سألتكِ المعلمة عما تطمحين أن تكونيه في المستقبل، أجبتِها: “قائدة ثورة”.

اخترتِ المسرح لقدرته على التغيير، وأُصبتِ بالخيبة حين اكتشفتِ أن الأمن هو من يدير منابر المعرفة والفن في سورية، وما من هامش لحرية التعبير، وكتبتِ: “كنتُ متأهبة للخسارات، مثل زملاء كثيرين، لأن الساحة لم تكن لأمثالنا”، “كنا شعبًا من الحالمين المحرومين من التجربة”. وكان سرّكِ مثل كل الحالمين، الانسلاخ عن الأطر الضيقة ومؤسسات التدجين، والانضمام إلى مجتمع مدني تحاول أجهزة القمع قتله، بكل ما لديها من قوة.

المجتمع المدني السوري البديل لكل ما كانت تنتجه الثقافة الرسمية السائدة من أضاليل وتشوهات، المجتمع الذي أطلق نداء الحرية والكرامة، وكنتِ تعتقدين أن ثورتنا تأخرت، فقد كان ينبغي لها أن تندلع عند استلام بشار الأسد لمقاليد الحكم في سورية عام 2000: “في يوم التوريث، بكيتُ ومشيت وحدي في شوارع دمشق الخالية. انتهيتُ إلى منزل شقيقتي. قلت لها: “لا عار ولا إذلال أكبر مما جرى اليوم، يتغير الدستور في دقائق، فقط لأنه ابن حافظ الأسد!”.

لستِ وحدكِ مَن بكى سوريةَ في ذاك اليوم الأسود، كنا كثيرين، وكنتِ صوتنا حين كتبتِ بعد انهيار جدار الخوف: “نحن -الشعب السوري- نحيّنا بشار الأسد عن منصبه كرئيس للجمهورية العربية السورية، ونحيّناه عن كافة مناصبه المدنية والسياسية والعسكرية”.

أفتح صفحات ذاكرتكِ الشخصية، وأقتبس بعضًا من خصوصياتك، لأستعيد ملامح الوعي المدني والسلمية التي أطلت من سلوكنا وخطابنا، قبل أن يغيّبها العنف ودويّ السلاح: “تعرفتُ إلى زوجي عبر (فيسبوك)”، و”قررتُ الذهاب إلى حمص، مغمورة بالسعادة ومؤمنة بالحب وبالثورة ومتمسكة بكليهما، في لحظة فاصلة بين المظاهرات السلمية وبروز التسلح”، “في شُح الأماكن الآمنة، تقاسمتُ وزوجي غرفة واحدة، يفصلها جدارٌ عن مستشفى ميداني، وجدارٌ آخر عن جثامين الشهداء قبل دفنهم، فيما القصفُ المستمر بقذائف الهاون قريبٌ جدًا منا. أقمنا معًا في تلك الغرفة قبل إشهار زواجنا، دون أن يسأل أحد عن طبيعة علاقتنا. زوّجنا شيخٌ قال إنه سيقيم لنا (أحلى عرس بساحة الساعة، لما يسقط النظام)، “بعد زفافنا في تلك الغرفة؛ دعانا أحد الثوار إلى العشاء، فلبيّنا دعوته وعبرنا حارة مظلمة تحاصرها الدبابات والقناصون، وأزيز الرصاص في كل الأرجاء. تناولنا الزادَ الفقير نفسه على مائدة بسيطة واحدة، نحن -المؤمنين بالسلمية والمقاتلين- والغبطة تملأ روحي، كأن شمسًا قد أشرقت منتصف الليل، في ذلك الدمار”.

الأمن يلاحقكِ، وكان عليكِ أن تغادري رغمًا عنك ساحة الثورة والحب. تجرعتِ صدمة المنفى بألم كامل وهدوء تام، ولم تتوقفي عن الاحتجاج، بل استنفرتِ كل إمكاناتكِ الإبداعية للتأثير على الرأي العام في البلد الغريب. في مهرجان (أفينيون) الشهير قدمتِ قراءةً مسرحيّةً لنصكِ (العبور)، وأمام عدد كبير من الطلاب الفرنسيين ألقيتِ محاضرة (الفن في مواجهة السلاح)، وحدثتهم عن الأشكال التعبيرية التي نمت وتطورت في قلب حراكنا السلمي، من فن الغرافيتي إلى لافتات كفرنبل، ثم أوردتِ أمثلة عن اعتقال النظام للفنانين، كرسام الكاريكاتير أكرم رسلان، والسيناريست عدنان زراعي.

لم أكن أعرفك كاتبةً، فاجأتني وأنا أقلب صفحات (العربي الجديد)، وأدهشني هذا المقطع: “اعتدتُ على الاستيقاظِ كلَّ يومٍ على ألمٍ جسدي مُبرح، مرةً في اليدين ومرةً في القدمين، وفي كل مرة، يكتشف الطبيب أن لا مرضَ عضويًا لديّ على الإطلاق، حتى أيقنتُ أنَّ أجسادنا تتحطمُ كما تتحطم سورية. لكنْ اليوم كان الوضع مختلفًا: اختناق! ارتميتُ على الكرسي، مددت يدي وكبست زر تشغيل اللابتوب.. كان الخبر الأول الذي يتصدر كل صفحات الإنترنت: “مجزرة بالكيماوي.. مئات الضحايا، أغلبهم من الأطفال والنساء يموتون اختناقًا من جرّاء قصف قوات النظام للغوطتين بغاز السارين”.

قرأتُ عن إصدار مجموعتيكِ الشعريتين: (كلما بلغ القمر) و(في العتمة المضيئة) باللغتيّن العربية والفرنسية، وقرأت أخبار مشاركتكِ في مهرجانات دولية، وعلى اليوتيوب تابعتك في مسلسل (الأمل)، وكنتِ في كل محطة جديدة من رحلة المنفى، تؤرخين أحداث ثورة بدأت بوردةٍ وغصنِ زيتون، وتسجلين اعتراضكِ على جرائم الاستبداد والحرب، وعلى الغياب الذي استولى عليكِ، وأنت ما تزالين في ربيعك السابع والأربعين: “من أنا؟/ بعد أن ظل وجهي/ واسمي/ وورد طفولتي/ لغتي/ وصوتي/ وذاكرتي هناك”.

أظن روحكِ تسبح الآن في سماء سورية، وأنا من مكاني البعيد، أمسح شاهدتكِ بدمعي، وأسمع صوتكِ يهمس لنا: “في هذا النفق المظلم/ على القلب أن يبقى على القلب/ واليد في اليد/ والروح في الروح/ والعين واحدة”.


تهامة الجندي


المصدر
جيرون