الحكايةُ في قفصِ الاتهام



“كان يا ما كان في قديم الزمان” جملةٌ كانت، وأغلبُ الظن أنها ما زالت، تفعل فينا فعل السحر، فما إن نسمعها حتى نتجمد أمامَ قائلها مشرعينَ قلوبنا وعقولنا وكل حواسنا أمام جلالها، لنتشربَ ما بعدها حرفًا حرفًا، كلمةً كلمةً، ومعنًى معنًى، بإرادةٍ وبغيرِ إرادة.

إنها الحكاية.. سر الأسرار، سلطةُ السلطات، ومعبودةُ الناس صغارًا وكبارًا، من أقصى مغرب الأرضِ إلى أقصى مشرقها.

لعبت الحكايةُ -وما زالت- دورًا كبيرًا في تكوينِ الميولِ والآراء، بل في تكوين الشخصية والهوية الفردية والجماعية، فمنذ مراحل الطفولة الأولى تكون الحكايةُ مصدرًا رئيسًا ومرجعًا ننهل منهُ قيمنا، أفكارنا ومعتقداتنا، وبالتالي سلوكنا وشخصيتنا التي مهما كبرنا وزادت خبرتنا وتجربتنا الحياتية؛ يبقَ لما زرعتهُ فينا السطوةُ الأكبر على حياتنا. يقول الباحث سيث ليرر: “يتكون الطفل أو الطفلة من خلال النصوص والحكايات التي يدرسها، أو يسمعها، ومن ثم يعيدها”، ومَا نحنُ الآن إلا أولئك الأطفال الذين كبروا!

أمام هذا الأثر والأهمية العظيمين، يحق لنا أن نضع الحكايةَ في قفصِ الاتهام، ونسألها: هل أنتِ المذنبةُ في ما وصلنا إليه اليوم؟!

الذئب الذي يترصد الأطفال المتمردين

خلال السنوات العشر التي عملت فيها في حقل الطفولة، أكثر من 70 بالمئة من الأطفال الذين التقيتهم، من مختلف المحافظات السورية ومختلف البيئات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، كانت قصة “ليلى والذئب” أو (ذات الرداء الأحمر) تتربع على عرش ذاكرتهم وقلوبهم، تأتي بعدها قصة “العنزات السبع”، أو قصص الأميرات من سندريلا، “بياض الثلج”، وغيرهما، بالنسبة إلى الإناث، بينما تشكل القصص الدينية من سيَر الأنبياء وغيرها، نسبة عُظمى تنافس (ليلى الذئب) في بعض المناطق.

كثيرًا ما كنتُ أسأل الأطفال: لماذا تحبون ليلى والذئب! فيكون الجواب: لأنها قصةٌ جميلة وفيها عبرة، فأسألهم: ما العبرة؟

أعتقدُ أن الإجابةَ التي كانت تأتيني دائمًا لن تخفى على أحدٍ منكم، وهي إجابةٌ توصلها القصة إليك بكل سلاسةٍ وبساطة، إنها “طاعة الوالدين واجبٌ، يأكلُ الذئبُ من يخالفَه”، وإذا أردنا تعميمَ هذه العبرة؛ أصبحت (طاعة أُولي الأمر واجبٌ.. إلخ).

هل نوجه إصبع الاتهام إلى شارل بيرو أول من نشر القصة في كتاب (قصص من قديم الزمان) عام 1697 مع مجموعةٍ أخرى من القصص التي جمعها من الحكايات التراثية، أم نحوّلُ أنظارنا نحو الأخوين “غريم” اللذين تفيضُ من الحكايات التي جمعاها مشاهد الرعب، الوحوش، والعقوباتُ القاسيةَ الدموية لمن يخالفُ الأوامر، لمن يحلق خارج السرب ويتمرد. قد يقفزُ أحدهم ليقول: الحق على المترجمين الذين نقلوا إلينا هذه الحكايات؛ فأجيبه: وهل تراثنا فقيرٌ بها؟!

إن الحكايات والخرافات الشعبية -سواء في الشرق الأوسطِ أو الأقصى أو في الغرب- هي حقلٌ خصبٌ يزخرُ بقيم ومعاني ومشاهد العنفِ، يفيضُ بالقيم السلبية التي تحملُ على ظهرها، في أحايين كثيرة، قيمًا إيجابية وأخلاقية. ولكن هل من الضروري كي أدركَ معاني العدل ونبذ القتل، أن أجعلَ القاتلَ يُلاحقُ من قبلِ أكثر الحيوانات افتراسًا، وفي النهايةِ وبعد الإفلاتِ بمشقةٍ من أنيابها، أن أجعلَ أفعًى تلتهمه؟! أجبني يا إيسوب! أو فليجبني كل كاتبٍ أو جامعٍ أو ناقلٍ لهذه الحكايات بشكلها هذا.. لحظة!

لستُ هنا في صددِ التشجيعِ على التحريف ولا بصددِ التحريضِ على التوثيق. إذًا ما الذي أفعله، أو ما الذي يمكنني فعله، أو قولهُ على الأقل؟ أظن أن ما علي قوله هنا، هو أهمية التوجه إلى كتابة جديدة مختلفة، تساعدُ الطفلَ على فهمِ العالَمِ دونَ أن تقحمهُ وسطَ معركةٍ دموية، دونَ أن تغرزَ أنيابًا وسيوفًا وخناجرَ في جسدِ وعيه ولا عيه، كتابةٌ تعلّم الطفلَ كيفَ يطور أدواته، بدلَ أن تقدم لها أدواتٍ مسبقةٍ الصنع؛ كتابةٌ تقدمُ المعاني والقيم الإيجابية ليسَ على ظهرِ قيم سلبية، إنما على ظهرِ سياقٍ وسردٍ يحفز المخيلةَ والفكر من دون أن يضر به؛ حكايةٌ لا تنمّط الأشياء والأشخاص، ولا توحد التجارب، لا تخبرنا أن الثعلب -مهما حاولَ أن يكونَ صادقًا- سيفشل، أو أن الشريرَ -مهما حاولَ أن يكونَ خيرًا- سيفشل، حكايةٌ تحترمُ الاختلاف، الشك والبحث والاكتشاف، ولا تنسَى، وسط ذلك، أن المتعةَ هي الطريقُ الأقربُ إلى قلبِ الطفل.


علا حسامو


المصدر
جيرون