مرحلة نوعية جديدة في الصراع السوري



تحدثت في مادة سابقة (4 تشرين الأول/ أكتوبر) عن متغيّرَين كبيرَين، حصلا مؤخّرًا، سيؤثّر كل واحد منهما كثيرًا، بطريقة نوعية، على مسار الصراع السوري، وربما على مآلاته. أول هذين المتغيّرين يتمثل في انحسار الصراع المسلح الذي طبع الثورة السورية بطابعه، بعد أن تمّت إزاحة الشعب من معادلات الصراع، بطريقة أو بأخرى. وثاني هذين المتغيّرين يتمثل في إعادة تموضع تركيا في هذا الصراع، بناء على رؤيتها لأمنها القومي، والمشكلة الكردية، والتحالف مع روسيا؛ ما ترتّب عليه توافقات روسية-تركية-إيرانية، للصراع السوري، كما تبدت في مسار أستانا التفاوضي الذي افتتح منذ مطلع هذا العام، والذي توّج باتفاقات “المناطق منخفضة التصعيد”.

بيد أن ما يفترض لفت الانتباه إليه هنا، أيضًا، أن انحسار الصراع المسلح، وربما وقفه نهائيًا، بغضّ النظر عن رأينا فيه، إنما أتى من الجهات ذاتها التي أطلقته، وبرّرت مواقفها وسلوكياتها به، وهي الجهات ذاتها التي كانت تدّعي رفض المفاوضات في مسار جنيف، والتمسك بالحل العسكري لإسقاط النظام؛ هذا أولًا. ثانيًا، إن هذا التطور لم يأت بسبب الإحباطات والمشكلات التي اعتورت العمل المسلح، طوال السنوات الماضية، ولا نتاجًا لمراجعة نقدية مسؤولة لهذه التجربة المكلفة، أو إدراكًا للمخاطر التي نجمت عنها، وضمنها تحويل سورية بأكملها إلى حقل رماية للبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والارتجاجية وصواريخ المدفعية وقذائف الدبابات التي كان يرميها النظام (والطيران الروسي فيما بعد)، على ما اعتبره المناطق الشعبية الحاضنة للثورة، وتشريد الملايين من السوريين، بحيث تحررَ النظام من أعباء السيطرة عليهم، وأفقد الثورة طابعها الشعبي. ثالثًا، إن هذا الموقف، في حقيقة الأمر، جاء استجابة لضغوط خارجية، وللمواءمة مع سياسات أو متطلبات الدول الداعمة لهذه الفصائل، على الرغم من أهمية أي وقف لإطلاق النار والاقتتال، لأن شعبنا هو الذي يدفع الثمن من أرواح أبنائه وعمران مدنه.

ما يجب التنويه إليه، أيضًا، أن التموضع التركي الجديد، في الصراع السوري، لم يعد يضع نصب عينه هدف دعم الثورة، أو المعارضة، في معركتها ضد النظام، كما كان في السابق؛ إذ إنه بات يركّز على ثلاث مسائل، أولاها، الحؤول دون قيام كيان كردي على حدوده الجنوبية، وضمن ذلك منع تواصل الجيوب الكردية في الشمال مع بعضها، ولا سيما مع عفرين في شمالي شرق سورية. وثانيتها، الحفاظ على منطقة نفوذ في الشمال من نهر الفرات في الشرق مرورًا بمدينة إعزاز وصولًا إلى إدلب، للحفاظ على حصة تركيا في تقرير مستقبل سورية، مع الفاعلين الدوليين والإقليميين الآخرين. وثالثتها، إيجاد نوع من منطقة آمنة تحول دون تدفّق مزيد من اللاجئين، من السوريين الذين تكتظ بهم محافظة إدلب، والذين لن يجدوا لهم سوى التدفق إلى تركيا، في حال حصل فيها ما حصل في الرقة أو الموصل (في العراق)، نتيجة لاستهدافها من النظام والطيران الروسي والميليشيات التابعة لإيران. رابعًا، إيجاد تحالفات جديدة دولية وإقليمية، قد تعوّض التوتّر الحاصل في علاقة تركيا مع الولايات المتحدة الأميركية، أو تشكل عاملًا ضاغطًا على الإدارة الأميركية في هذا الاتجاه؛ لدفعها نحو أخذ المصالح التركية بالحسبان في الترتيبات الإقليمية الجارية في المنطقة، ولا سيما في العراق وسورية.

على أي حال، فقد كان القصد من طرح المتغيّرين السابقين القول إن ما بعدهما ليس كما قبلهما، بالنسبة إلى المعارضة السورية، بخصوص طبيعة صراعها مع النظام، وشكل هذا الصراع، أما على الصعيد العام فثمة متغيّرات عديدة أخرى في المشهد السوري، لا بدّ أنها ستؤثّر على مسارات الصراع السوري، أيضًا، بمختلف الأشكال في المرحلة المقبلة، ويأتي ضمن ذلك، مثلًا:

1- صعود مكانة الكرد في الصراع السوري، من خلال “قوات سورية الديمقراطية” التي يديرها بشكل رئيس حزب (بي واي دي) الكردي، حيث إن هذه القوات باتت تسيطر على خُمس الأراضي السورية، لا سيما في الشمال الشرقي من سورية، إلى الغرب من الفرات، وعلى حدود العراق، وبديهي أن هذا الوضع سيجعل هذا الحزب في موقع قوة، إزاء المعارضة وإزاء النظام في آن واحد. وعلى الرغم من أن هذا الحزب لا يطرح التقسيم، وإنما يطرح الفدرالية والديمقراطية، إلا أن المشكلة معه تتعلق بمحتوى الفدرالية: إثنية وطائفية أم جغرافية؟ وثمة مشكلة أخرى تتعلق بشبهات تبعيته لـ (حزب العمال الكردي) التركي. وفي كل الأحوال، فإن المعارضة معنية بإيجاد مقاربات سياسية ملائمة مع هذه القوة الصاعدة في المشهد السوري، تصب في وحدة سورية، شعبًا وأرضًا ودولة، والاعتراف بالحقوق الكردية الفردية والجمعية في الإطار السوري، والحؤول دون تمكين النظام من استخدام الورقة الكردية لصالحه.

2- انحسار تيار السلفية الجهادية، وهو التيار المهيمن بدرجة أو بأخرى، في الكيانات العسكرية الرئيسة للمعارضة السورية المسلحة، ومشكلة هذا التيار أنه يعتمد على الخارج، وأنه لم ينجح في إدارة المناطق المحررة التي كانت تحت سيطرته، وأنه لا ينسجم، وربما يعادي، مع المقاصد الأساسية للثورة المتمثلة بالحرية والمواطنة والديمقراطية. وطبعًا ثمة مشكلة أخرى لهذا التيار وهي أنه لا يمثل قطاعًا واسعًا في مجتمعات السوريين، لأنه ظهر ونما فجأة بفضل الدعم الخارجي.

3- غياب أدوار الدول العربية، إذ إن التحكم في الصراع السوري بات يقتصر على الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، مع علمنا بأن الولايات المتحدة تتحكم به سلبًا، أي من دون أن توضح أو تحسم موقفها بشأن كيفية إنهائه، وباعتمادها استراتيجية إدارة الصراع والاستثمار فيه، بدل حله.

4- واضح أن الوضع في سورية بات يشي بوجود مناطق نفوذ لقوى إقليمية ودولية، ولا شيء في الوضع الراهن يبين كيفية الخروج من هذا الواقع.

5- يتضح من كل ما تقدم أن نقطة الضعف الأساسية في كل ما يجري تتعلق بغياب المعارضة، السياسية والعسكرية والمدنية، أو بضعف إمكاناتها، وهامشية دورها، فهل تفعل القوى الحية في المعارضة ما عليها؛ للارتقاء بوضعها، والخروج من هذا المأزق، بما يتناسب وتضحيات السوريين، من أجل استعادة الثورة لحيويتها ومقاصدها الأساسية؟


ماجد كيالي


المصدر
جيرون