نيو يورك تايمز: القضية الأخلاقية لمقاومة التجنيد



يشارك رجل دين بحرق بطاقات التجنيد في كنيسة شارع أرلينغتون في بوسطن، تشرين الأول/ أكتوبر 1967. جو رنسي/ ذي بوسطن غلوب، عبر صور جيتي

يوم الإثنين 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1967، تجمَّع الأميركيون بالآلاف في المدن، والجامعات في جميع أنحاء البلاد في أولِّ أسبوع من حملة “وقف التجنيد”. على أدراج المباني الاتحادية، وقاعات المدينة، والمباني الجامعية، احتج المئات من الشبان على حرب فيتنام عن طريق تسليم بطاقات تجنيدهم، وهو عملٌ وطني بالعصيان المدني.

في بوسطن، تجمّع مقاومو التجنيد في كنيسة شارع أرلينغتون التاريخية، سلموا بطاقاتهم فيما بدا وكأنّها طقوسٌ مقدسة. بجديةٍ صعدوا الممر، بعضهم يبكي، مودعين بطاقات تجنيدهم في صحون القربان. بينما حرق آخرون بطاقاتهم على لهب شمعة فوق شمعدان، كان يملكه ذات يوم الواعظ وليام إليري تشانينغ، المعادي للعبودية.

قال جيمس أوستريتش، وهو طالبٌ باحث في بوسطن، وهو يتأملُ اللحظة التي سلَّم فيها بطاقة تجنيده: “من الصعب، أنْ يواجه المرء حكومته خلال الحرب”. وأضاف: “نحن نعرف كيف ندفع ضرائبنا… لكننا لا نعرف كيف نعارض حكومتنا بطريقةٍ مسؤولة، ومسموعة”.

في الذاكرة الوطنية حول حرب فيتنام، كلُّ من ينتهك مشاريع قوانين التجنيد يعدّ عادة على أنّه أنانيّ، وجبان وغير وطنيّ. كان الأمر بالنسبة إلى الناشطين في مجال الحقوق المدنية لمواجهة الحكومة أن يخرقوا القانون. وبحلول عام 1967، كان العديد منهم يُعتبر من بين أرقى المواطنين في البلاد. ولكن إذا تحدى مواطنٌ قوانين التجنيد لاتخاذ موقفٍ مماثل؛ فإن قليلين من ينظرون إليه كما فعل المقاومون، كمناشدةٍ يائسة لمُثل البلاد العليا.

من المؤكّد، أنَّ الرئيس ليندون جونسون لم يتفهم الأمر. عندما ظهر مقاومو التجنيد في واشنطن يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر مع ما يقرب من ألف بطاقة تجنيدٍ، تمَّ جمعها من جميع أنحاء البلاد، وتسليمهم إلى وزارة العدل، كان غاضبًا. اهتاج جونسون سرًا ممن كان “الأحمق التافه هو الذي يترك شخصًا ما يسلّم مجموعةً من بطاقات التجنيد أمام وزارة العدل، ثمّ يسمح لهم تمامًا بالابتعاد”، فأمرَ النائب العام، ومكتب التحقيق الاتحادي، ووكالة الخدمة الانتقائية، بالتحقيق.

لو أنَّ الرئيس اطلّع بشكلٍ أفضل؛ فإنه كان سيعلم أنَّ موضوع الأسبوع “الانتقال من الاحتجاج إلى المقاومة”، أتى إلى حدٍّ كبير من توقع أنْ يتحدى آلاف الرجال الذين هم في سن التجنيد عمدًا مشاريع القوانين، ولَكان عرف ما يكفي عن التجنيد الذي كان ينبغي أنْ يعرف أنَّ الاحتجاجات ستعقبه.

بحلول عام 1967، كان من المنطقي أنْ يستهدف المتظاهرون نظام الخدمة الانتقائية، واتفق الجميع تقريًبا على أنَّ التجنيد لا يتمُّ بصورةٍ عادلة. ومنذ الخمسينيات، واجهت الحكومة مشكلةً جوهرية بإدارة نظام التجنيد في أوقات السلم: أنتجت طفرة الولادات (1946-1964) الكثيرَ من الرجال الذين هم في سن التجنيد. وحتى خلال حرب فيتنام، قام الجيش بتجنيد أو وضع أقل من 11 مليون رجل في سن التجنيد، من بين ما يقرب من 27 مليون شخص. وبموجب توجيه الجنرال لويس هيرشي، شكلت الخدمة الانتقائية نظامًا للتأجيل والإعفاءات، منحت فيه مجالس المشاريع المحلية للمطلوبين متابعة أنشطةٍ معينة خارج الجيش، مثل الذهاب إلى كليّات الطب أو الإلهيات، لأن يخدموا في قوات الاحتياط؛ أو العمل لدى مقاولٍ في الدفاع.

بحلول عام 1966، ومع تزايد طلبات التجنيد بشكلٍ كبير، تعرَّض نظام التأجيل لانتقاداتٍ شديدة. وردًّا على ذلك، عيَّنَ الرئيس جونسون لجنةً تتحقق من مظالم النظام. في الواقع، حوَّلَ التجنيد حرب فيتنام إلى “حرب الطبقة العاملة”، كما وصف ذلك المؤرخ كريستيان آبي، مع أعدادٍ غير متناسبة من الفقراء، والطبقة العاملة الذين أُرسلوا إلى فيتنام، في حين يبدو أن الجميع ينصرف من الكلية.

في الوقت نفسه، كشفت سجلات عام 1965 لمجموعة التدريب للخدمة الانتقائية أنّ القانون ليس فقط غيرَ عادلٍ، ولكنه مشروع هندسةٍ اجتماعية واسعة. فيما يسمى “مذكرة توجيه” التي نشرت أول مرةٍ في مدونات اليسار الجديد في كانون الثاني/ يناير 1967، كتب الجنرال هيرشي لمسؤولي هيئة التجنيد أنّ عملية تسليم بضعة آلاف من الرجال إلى مراكز الالتحاق “ليست أكثر من تحدٍّ إداري”، وبدلًا من ذلك، قال الجنرال هيرشي: “في التعامل مع الملايين الآخرين من المسجلين حيث النظام مشغولٌ بشكلٍ كبير؛ فإنَّ تطوير أناسٍ أكثر فاعلية في المصلحة الوطنية”. إنَّه لأمرٌ سيئ للغاية، بحيث لم يُخبر أحدٌ الجمهور الأميركي أنَّ النقطة الحقيقية للمشروع كانت لتطوير “بشر أكثر فاعلية”.

مع ذلك، من خلال استخدام “توجيه” بممارسة التهديد بالالتحاق لدفع الشباب نحو أنشطةٍ، اعتبرتها وكالة الخدمة الانتقائية “مصلحة وطنية” متقدمة؛ أنتج المشروع “علم النفس المختص بمنح خيارٍ واسع تحت الضغط”.

كشفت مذكرة التوجيه عن نظام تجنيدٍ قسري يلتهم جيلًا من الرجال، ويلقي بهم في ساحة للتنافس فيما بين بعضهم، في مسابقة، قلةٌ منهم قد اختاروها لأنفسهم. الحصول على تأجيل يعني البقاء على قيد الحياة. بالنسبة إلى الرجال الذين أصبحوا مقاومي التجنيد، ولمؤيديهم، فإنَّ إدراكهم أنَّهم اضطروا إلى لعب لعبةٍ غير ديموقراطية، ميَّزتْ بعض الأميركان على غيرهم، عزّز إحساسهم بأنَّ الولايات المتحدة قد انحرفت عن قيمها الخالدة.

لم يتخذوا قرارهم بمقاومة المشروع بسهولة. وباعتبارهم أبناء جيل الحرب العالمية الثانية، فكروا في بلدهم كقائدٍ للأمم: فقد هزمتْ الولايات المتحدة الفاشية في الخارج، وحاكمت مجرمي الحرب النازيين، وجلبت الأمم المتحدة إلى نيويورك.

ومع تقدمهم في العمر، ونضجهم، فقد رأوا، ليندون جونسون، يصعّد الحرب في فيتنام تقريبًا من جانبٍ واحد، ما أسفر عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين الفيتناميين، وعشرات الآلاف من الأميركيين. فبدلًا من أن تكون الولايات المتحدة دولةً نموذجية، تواجه الآن إدانةً دولية، حتى من الحلفاء، على استخدام القوة العسكرية المفرطة. وبعد سنواتٍ من التوقيع على العرائض، والكتابة إلى أعضاء الكونجرس، والتظاهر بمظاهراتٍ واسعة النطاق، لكنْ من دون جدوى، فإنَّ مقاومي التجنيد يتصدرون المشهد الآن.

قام ائتلاف فضفاض من منظمي “المقاومة” بتخطيط مشروع تسليم البطاقة الوطنية، بإلهامٍ من حركة (الحقوق المدنية)، وحركة (بيركلي) لحرية التعبير (التي وصف خلالها أحد قادتها، ماريو سافيو، أنه “يجب أنْ تضعوا أجسادكم على التروس، وعلى العجلات، وعلى الرافعات” من أجل وقف وتشغيل “الآلة” البغيضة، وأن تكونوا مثل أولَّ المقاومين محمد علي). من خلال المخاطرة بالاتهام، اعتقدوا أنّه يمكنهم أنْ يقدموا إدارة جونسون -والحرب نفسها- للمحاكمة في جميع أنحاء البلاد.

دعمَ عشرات الآلاف من الأميركيين مقاومي التجنيد، من خلال توقيع أسمائهم على بيانات التشارك. والأكثر بروزًا “الدعوة إلى مقاومة السلطة غير الشرعية“، التي كتبها المثقفون، ونُشرت لأول مرة في مجلة (نيويورك ريفيو) وجريدة (الجمهورية الجديدة). وشددّتْ على “الدعوة” لتوثيق جرائم الحرب الأميركية في فيتنام، ودعتْ الأميركيين إلى دعم مقاومي التجنيد الذين اعتبرهم الموقعون “شجعانًا ومنصفين”.

كان عدد قليل من المتطرفين. على سبيل المثال، كان مقاومو مشروع بوسطن في الغالب من الطبقة المتوسطة إلى العليا، وأطفال الديمقراطيين الذين يفترض أنَّهم صوّتوا لصالح جونسون في عام 1964. والأهم من ذلك أن 82 في المئة منهم كانوا يؤجَلون بحيث لا يذهبون للتجنيد. وبخرقِ القانون، جعلوا أنفسهم عمدًا عرضةً للمقاضاة، ودعوتهم إلى الالتحاق. كانت هذه بالكاد أفعال الجبناء.

قال نورمان مايلر: “كان هناك شيءٌ من البهلوانيات في تلك المناورات الآن”، عندما أعيدت بطاقات التجنيد إلى وزارة العدل. وقال: إنَّ الالتزام بمستقبلٍ غير مؤكّدٍ قد ينطوي على عقوبة السجن كان “قفزةً أخلاقية يجب أنْ يعرفها البهلوان، عندما يندفع طائرًا في الفضاء”. “يجب أن يكون المرء واثقًا من قدرة المرء على التفاعل مع مسار النعمة، واختتم: “على المرء الاعتقاد في نوعٍ من المجد”.

لم ير الرئيس جونسون، ولا الجنرال هيرشي، أيّ نعمةٍ في مقاومة التجنيد. استجاب هيرشي بحماسٍ لأمر الرئيس بالتصرف مع مقاومة التجنيد بإصدار تعليماتٍ إلى مجالس الإدارة بإعادة التصنيف، ودعوة أيّ شخصٍ سلم بطاقة تجنيده للالتحاق، وهي إجراءاتٌ غير دستورية، حكمت بموجبها المحكمة العليا في وقت لاحق (في قضية جيمس أوستريتش وغيرها).

وعلى الرغم من أنَّ المتوقع أنْ يُعتقل مقاومو التجنيد ويُحاكموا، فإنَّ المدعي العام، رمزي كلارك، فاجأهم بإدانة عددٍ قليل فقط من زعمائهم، بما فيهم طبيب الأطفال الشهير الدكتور بنيامين سبوك. (تم إلغاء الإدانات في تلك المحاكمة عند الاستئناف).

إنَّ استراتيجية العصيان المدني الجماعي لمقاومي التجنيد لم تنجح بالطريقة التي خططوا بها؛ فلم يحصلوا على فرصةٍ لتقديم الحرب للمحاكمة في مئات من الإجراءات القضائية الاتحادية في جميع أنحاء البلاد. ولكن أوراق إدارة جونسون تُظهر أنَّ الرئيس لم يمنح طلب الجنرال ويليام ويستمورلاند لتجنيد 206،000 جنديًّا إضافيًّا بشكل جزئيّ؛ لأنَّ الكثير من مسؤولي الإدارة توقعوا المزيد من مقاومة التجنيد على نطاقٍ غير مسبوق.

بعد خمسين عامًا، يجدر بنا أنْ نتذكر مكان مقاومي التجنيد في التقليد الأميركي للمعارضة. فمن خلال تصاعد الاحتجاج ضد الحرب، والمخاطرة بحريتهم، حافظوا على شكلٍ حيويّ من أشكال المواطنة.

اسم المقال الأصلي The Moral Case for Draft Resistance الكاتب مايكل ستيورات فولي، Michael Stewart Foley مكان النشر وتاريخه نيو يورك تايمز، The New York Times، 17/10 رابط المقالة https://www.nytimes.com/2017/10/17/opinion/vietnam-draft-resistance.html عدد الكلمات 1287 ترجمة أحمد عيشة


أحمد عيشة


المصدر
جيرون