هل تغيّر الطفلة “سحر” مصير الغوطة؟!



هي الطفلة الأولى لعائلةٍ أنهكها الفقر والحصار، وأعيا أبويها، من قبل أن تصرخ صرختها الأولى معلنةً قدومها مع حفنةٍ من الفرح، ومن بعد أن فارقت الحياة قبل أن تكمل شهرها الثاني. سحر ضفدع طفلة الجوع التي لم يسعفها حليب أمها النزر، إذ تعاني الأم في الأصل من مشكلات سوء التغذية، وبعد أن وضعت سحرَ، لم يكن بإمكانها تناول أكثر من وجبة واحدة يوميًا، “وهذه الوجبة لا تعطي الوارد الحروري الكافي لاحتياجات الأم المرضع”، وفقَ الرأي الطبي، ما أدى إلى عدم وجود إدرار عند الأم، نتيجة سوء التغذية والحالة النفسية الصعبة التي تعيشها.

اعتمدت الأم على الحليب الصناعي في تغذية سحر منذ ولادتها، ونظرًا إلى عدم توفر الحليب وارتفاع أسعاره؛ اضطرت إلى إدخال مادة السكر في تغذية الطفلة؛ ما أدى إلى إصابتها بأعراض نقص التغذية، راجعت العائلة المركزَ الطبي المختص بالأطفال (مركز الحكيم)، فأمدّها بالغذاء والدواء المناسب فتحسنت حالها قليلًا، لكن صحتها تدهورت مرة أخرى، للأسباب ذاتها (عدم قدرة أهلها على توفير حليب الأطفال الملائم لعمرها بكميات مناسبة)، وعندما نقلوها إلى المستشفى مرة أخرى؛ لم يتمكن الأطباء من فعل شيء ضمن إمكاناتهم المحدودة؛ فالطفلة كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، ووفقًا للتقرير الطبي الصادر عن (مركز الحكيم)، أمس الثلاثاء، فقد “كانت حالة الطفلة سحر -في مراجعتها الأخيرة- سيئة جدًا، كانت تبدو عليها مظاهر سوء تغذية شديد مع تجفاف شديد”، ووضع المركز التشخيص النهائي لحالتها: “سوء تغذية مختلط بإنتان معوي مع حماض استقلابي”.

لا تشبه تجربة الحمل في الغوطة تجاربَ الحمل الأخرى، فالمرأة الحامل في الغوطة، هي كيان يفوق بهشاشته الهواء، وهي معرّضة بشكل دائم لخطر الإجهاض أو الإصابة بأمراضٍ عضال هي وجنينها، بسبب نقص الطعام، والمُكملات الدوائية الضرورية، كذلك الأمر بالنسبة إلى الطبابة الخاصة بالحوامل والأطفال فهي قليلة، حيث يوجد في غوطة دمشق مركزٌ وحيد يقدّم الرعاية الطبية للأم والطفل، وهو (مركز الحكيم)، ومراجعته صعبة جدًا بسبب الازدحام الشديد، فضلًا عن عدم وجود أطباء مختصين أطفال، إذ يوجد في عموم الغوطة 5 أطباء أطفال، واحد منهم فقط مختص تغذية.

دقائق تلت وفاة سحر، عندما التقط المصور عامر الموهباني، صورةً أخيرة لجسدها النحيل على الميزان، لتختزل هذه الطفلة التي لم تُكمل الشهرين من عمرها، حكاياتِ القهر التي تعيشها الأمهات على بعد كيلومترات من العاصمة دمشق. قال الموهباني لـ (جيرون): “كانت والدة سحر تعاني نقصًا في التغذية في أثناء الحمل، حالها حال معظم حوامل الغوطة اللائي إن وجدن طعامًا فإنه لا يكون ملائمًا بنوعه وكمه، فضلًا عن ضعف الرعاية الطبية الخاصة بالحوامل”.

هل يدرك العالَم معنى أن تبحث أمٌّ، أمضت 9 أشهر في حملها، عن حليبٍ لرضيعها فلا تجده! عندما سألتُ الموهباني؛ لم يستطع الإجابة، كانت غصته تصلني مع كل نفَس، وكان في الوقت نفسه يحاول أن يرفدني بإجابات لأسئلتي بقوةٍ وثقة بالنفس، كان يريد أن يقول: نحن هنا، ما زلنا موجودين، وسيبقى صوتنا عاليًا، نطالب بالحياة كما طالبنا بالحرية، ونطالب بحليبٍ ودواءٍ للأطفال؛ ليكبروا ويهتفوا لبقاء الحياة”.

لم تكن سحر ضفدع الضحية الأولى لسوء التغذية وضعف الرعاية الطبية في غوطة دمشق، فمن قبلِ سحر، توفي 11 طفلًا، خلال 3 أشهر من جرّاء نقص الطعام والدواء، إلا أن كاميرات وأقلام الصحافيين عجزت عن نقل قصصهم، لعدة أسباب أهمها -بحسب الموهباني- “أن الأهالي في الغوطة فقدوا ثقتهم بالإعلام، وبات من الصعب إقناعهم بأن إيصال الصوت حقٌّ وواجب، فضلًا عن الصورة العامة التي كونوها عن التصوير، بأنه استجداءٌ للمنظمات الإغاثية”.

قال الناشط محمد. س، وقد عايش تجربة الغوطة في جنوب دمشق، لـ (جيرون): “إن تجربة الحصار هي أسوأ تجربة يمكن أن يعيشها الإنسان على الإطلاق، ففي هذه التجربة تستطيع الجماعة البشرية أن تصل إلى قناعة، مفادها أن ليس مهمًا بقاء الآخرين على قيد الحياة، الأهم بقاؤها هي”، مؤكدًا أن “ما يحدث حاليًا في الغوطة هو محاولة لتركيع الناس، وإطفاء أحلام أهلها البسطاء، والعودة بهم إلى مربع تأمين رغيف الخبز”، لافتًا إلى أن “عدّاد الموت جوعًا لم يبدأ بالطفلة سحر، ولن يتوقف عندها”.

بخصوص حملة (الأسد يحاصر الغوطة) التي أطلقتها فاعليات من الغوطة منذ 23 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وإمكانية أن تحدث فارقًا، قال محمد: “الحملة هي رسالة من الداخل، تريد إيصال رسالة فحواها (أن الداخل أُنهك)، ومحاولات للمراهنة على السوريين الموجودين في الخارج إلا أن الأخيرين استغرقوا بتفاصيل الاندماج، وأصبحت قصص الداخل بالنسبة إليهم مجردَ حنين، غيرَ أن أهالي الغوطة اليوم لا يحتاجون إلى هذا الحنين.. هم بحاجة إلى فعل حقيقي يساهم في إنقاذ أكثر من 300 ألف طفل، يعانون سوء تغذية ونقص رعاية طبية“.

رفضت عائلة سحر خروج المصوّر معهم إلى المقبرة، وطلبوا منه المغادرة، كما منع (مركز الحكيم) الصحافيين والمصورين من دخول المركز لفترة زمنية مؤقتة، في هذا الجانب، قال الموهباني: “هناك العديد من الحالات المؤلمة التي تحاكي ما حصل مع سحر، تنتظر تبدّل المصير، وعلى رأسهم مرضى سوء التغذية، ويُقدّر عددهم بـ 1900 مريضًا، بينهم 70 في حالة خطِرة، ومرضى السرطان ويراوح عددهم حول 550 مريضًا”.


آلاء عوض


المصدر
جيرون