(لا عودة إلى حمص).. سياسات النظام في التغيير الديموغرافي



نشرَ (المركز السوري للإعلام وحرية التعبير) دراسةً حول التهجير القسري في سورية الذي بدأ في محافظة حمص وسط البلاد عام 2014، ثم توسّع إلى مناطق ريف دمشق وحلب الشرقية، بناءً على دوافع طائفية ستؤثر فيما بعد على ملف إعادة الاستقرار إلى البلاد، بعد انتهاء الحرب.

الدراسة التي صدرت في 23 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وحملت عنوان (لا عودةَ إلى حمص) أُعدّت بالتعاون بين (معهد سورية، ومنظمة باكس)، من خلال مقابلات وإحصاءات ومتابعة اتصالات مع 16 سوريًا، ممّن هُجّروا من مدينة حمص، وتم جمع المعلومات أيضًا من خلال مقابلات تكميلية مع 31 مصدرًا ثانويًا، من ضمنهم صحافيون سوريون وقادة مجتمع مدني، وسكان سابقون لديهم معرفة مفصّلة عن حمص، واستندت الخلفية الإضافية للدراسة والبحوث المساعدة إلى تقارير صحفية، ودراسات سابقة وتحليل لبيانات مفتوحة المصدر، كصور الأقمار الصناعية.

قدمت الدراسة خلفيةً عن مدينة حمص، منذ بداية الاحتجاجات عام 2012، مرورًا بالتدمير والتهجير لمعظم مناطق المدينة بحلول منتصف عام 2014، مشيرة إلى أن “استراتيجية التهجير السكاني التي يتبعها النظام بدأت تأخذ طابع الهندسة الديموغرافية، التي تُعرف بأنها تلاعب الدولة بالمجموعات الإثنية خلال الحرب؛ بهدف تغيير توازن القوى بين المجموعات الطائفية المعارضة”، معتبرة أن “هذه التغييرات الديموغرافية ستؤثر في حياة ملايين السوريين، وتعقّد آفاق السلام المستقبلي، والمفاوضات والانتقال السياسي وإعادة الإعمار”.

وفقًا للدارسة، فإنه “منذ سنتين، أي قبل قيام المشهد المدمر لشرق حلب بصدم ضمير العالم في كانون الأول/ ديسمبر لعام 2016، كانت حمص أول مدينة تستسلم لحصار النظام واستراتيجيته التدميرية، نتيجةَ عجز المدنيين عن مواجهة المجازر والحصار والتجويع، وتدمير البنى التحتية، ونقص الرعاية الطبية، لينجح بذلك النظام في إخلاء الأحياء السكنية ذات الغالبية السنيّة”.

تم ترحيل آخر مجموعة من المدنيين والمقاتلين، في وسط مدينة حمص المحاصر بداية 2014، في سلسلة عمليات نقلٍ قسري للسكان برعاية الأمم المتحدة ووساطة إيرانية، حيث نُقل المقاتلون والمدنيون في باصات خضر حكومية إلى الوعر أو إلى الريف الشمالي لحمص، وما زالت منطقة الوعر والريف الشمالي لحمص تحت حصار القوات الموالية للحكومة حتى اليوم، منذ ذلك الوقت تحولت هذه الباصات الخضراء إلى رمزٍ سيئ السمعة لاستراتيجية الاستسلام أو التجويع والنقل السكاني الإلزامي المتبعة من النظام.

لفتت الدراسة إلى أن أفعال التهجير القسري تنتهك القوانين الإنسانية الدولية والقانون الجنائي الدولي، “ولأن هذه الممارسات ارتُكبت ضد مدنيين آخرين، مثل سكان داريّا وشرق حلب؛ فإن ذلك يشير إلى أنها جزء من استراتيجية منهجية واسعة النطاق، وبالتالي يمكن عدّها جرائم ضد الإنسانية”. وأضافت: “أن تجربة حمص وشعبها في الشتات، في السنوات التي تلت عملية إخلاء السكان، يمكن أن توفّر نظرة ثاقبة حول ما يمكن أن يحمله المستقبل في المناطق التي تم إخلاؤها حديثًا، ومناطق أخرى مثل مضايا ودوما اللتين تبدوان مستعدتين لمتابعة المسار ذاته، في العام المقبل”.

سلطت الدراسة الضوءَ على الجدل والانتقادات التي تعرضت لها الأمم المتحدة، لمشاركتها في اتفاقية حمص والتهجير القسري للسكان، ولفشلها في حماية أولئك الذين أُجبروا على مغادرة مناطقهم؛ “إذ اعتُبرت هذه المشاركة بمثابة تواطؤ مع ممارسات النظام لتهجير السكان السنّة، خصوصًا بعد قيام النظام باعتقال المئات، ممّن أُخلي سبيلهم، على حواجز النظام”.

إعادة التأهيل

أكدت الدراسة أنه بعد انتهاء التهجير القسري في حمص، بدأت وكالات مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بجهود إعادة التأهيل في بعض الأحياء المدمرة، بدعم من الدول المانحة، وتعاون (محدود) من قبل النظام الذي لم يُخفِ سياسته بإعادة هيكلة المدينة، من خلال انعدام الشفافية والمساواة في اختيار الأحياء المُستهدفة، في جهود إعادة التأهيل الأولية، “وعزّز اختيار النظام حي (الحميدية) المسيحي، كأول موقع تتم إعادة تأهيله، هذه الفكرة، وفي الوقت نفسه تجاهل النظام حي (باب هود) الاستراتيجي، والذي كان سابقًا معقلًا للمعارضة، وهذه الاختيارات تؤكد فكرة أن النظام يستخدم عملية إعادة التأهيل؛ لمتابعة خطته في التغيير الديموغرافي لمدينة حمص، وحرمان النازحين السنّة خاصة من حقوقهم، وتحويل التخطيط العمراني إلى سلاح حرب”.

واعتبرت أن “التعاون مع النظام، في إعادة تأهيل المناطق التي دُمّرت عمدًا من أجل تهجير أهلها المدنيين، يثير شكوكًا أخلاقية خطيرة، حيث إن التمويل الدولي والدعم لإعادة الإعمار في مناطق كمناطق حمص القديمة يشكل (عوائد لجرائم الحرب)؛ ما يسمح للنظام بالاستفادة من جرائمه بدلًا من تحميله مسؤولية ارتكاب هذه الجرائم، وكنتيجة لهذا الدعم غير المشروط؛ بات النظام يعرف أنه يمكن له ارتكاب جرائم الحرب هذه، بل أصبح هناك من يشجعه على ارتكابها، فعلى بُعد ميلين فقط من جهود إزالة الأنقاض التي قام بها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في جورة الشياح، ما يزال عشرات الآلاف من المدنيين في منطقة الوعر يعانون من هجوم النظام والحصار”.

خرجت الدراسة بعدة توصيات، أهمها أن “إعادة الإعمار المادي لمدينة حمص ضروري لاستعادة الحياة، وضرورة أن يكون ذلك جزءًا من استراتيجية شاملة، تضمن ألا يكون الدعم (كعوائد لجرائم حرب) النظام، كما أوصت بـ “ضرورة إشراك النازحين واللاجئين في صنع مستقبل مجتمعاتهم، وضرورة أن تكون جهود إعادة الإعمار والتأهيل مستقلة عن النظام”.

جدير بالذكر أن (منظمة باكس) المشاركة في إعداد الدراسة تُعنى بحماية المدنيين من آثار الحرب بشكل مستقل عن المصالح السياسية، أما (معهد سورية) فهو منظمة بحوث مستقلة غير ربحية مقرها واشنطن.


نسرين أنابلي


المصدر
جيرون