الاحتلالات ومهمات السوريين الآن



تتحدد مهمّات السوريين انطلاقًا من تموضع الأحداث في واقعهم؛ الآن لدينا احتلال روسي واسع، وهناك تدخل تركي كبير أيضًا، وقواعد أميركية تتمركز في مناطق يسيطر عليها حزب (ب ي د). السوريون موزعون أيضًا بين داخل وخارج هُجّروا إليه، ولكنهم خارج الفعل، سواء أكانوا معارضين أم مواليين؛ فروسيا بشكل رئيسي “تنتج” الوقائع السياسية، إذ إنها فرضت مناطق خفض التوتر، وتخوض الحروب الأخيرة ضد (داعش)، وتسيطر على الفصائل المعارضة عبر إغلاق منافذ مناطقها عليها. وإن النظام ذاته يتزايد تهميشه؛ كلّما تهمّشت (داعش) و(النصرة).

النتيجة هنا أن السوريين مغيبون بفعل شدّة التدخل الدولي والإقليمي.

ادعت كلّ من أميركا وروسيا وإيران أنّ وجودها متعلق بالقضاء على (داعش)! ولكن الآن انتهى تنظيم (داعش)، فما هو مبرر الصمت حيال بقاء جيوش هذه الدول في سورية؟ والسؤال: كيف سيَقرأ السوريون واقعهم هذا؟ تناولتُ الموضوعَ جزئيًا في مقالٍ سابقٍ في (جيرون)، بعنوان: “الاحتلال الروسي” مصطلحٌ سائد.. فما العمل؟ من زاوية أن حجم التدخل الروسي يقول إنه أصبح احتلالًا كاملًا، وهناك قواعد عسكرية أميركية تدفع بقواتها البرية “الأكراد” للسيطرة على مناطق النفط، وهناك كلام جديد عن إعادة إعمار الرقة ومحيطها؛ إذًا هناك شكل من الاحتلال الأميركي للمنطقة الشرقية، لا سيّما أنه ترافق مع رفض إشراك الفصائل العربية “أهل المنطقة”، في الحرب على (داعش) في الرقة ودير الزور، وسُمِح لها حينما تحلّ نفسها، وتنخرط ضمن قوات (قسد) الكردية.

بوتين الآن، الفاعل الأقوى، يعلن  خيارًا جديدًا، ويحاول ضبط مواقف كل من النظام والمعارضة، وهو “مؤتمر شعوب سورية”، عبر مطار حميميم، الرمز الأقوى للاحتلال الروسي، ويريد بذلك توكيل نفسه للإشراف على كلّ مجريات التغيرات في الواقع السوري، والضغط على الأميركيين للتحرك، وذلك لعقد صفقة سياسية تخص سورية، حيث تدعو روسيا ممثلين عن المدن الخاضعة للأميركيين إلى حميميم. طبعًا هذا المسار مترافق مع مسار أستانا وتهميش مسار جنيف بالكامل، ما لم تتفكك هيئة التفاوض العليا، وتشترك مع “عملاء” موسكو وتُشكل معهم وفدًا مشتركًا.

السوريون معنيون بقراءة هذه اللوحة، وإنتاج هوية وطنية جديدة، وعلى الرغم من كل انبعاثات الهويات الطائفية والقومية والعشائرية والمناطقية؛ فإن مؤدّاها الأخير كان لصالح الاحتلالات الخارجية. هنا المشكلة بالضبط، إذًا كل تعريف للسوريين بغير كونهم “الشعب السوري الواحد”، كما ردّد ثوار سورية طوال عامي 2011 و2012 بشكل خاص، يدفع بهم نحو “الترحيب واستقبال” الاحتلالات، وإعادة إنتاج النظام وتشكيل نظام متوافق مع مصالح الدول الخارجية.

الهوية الوطنية الجديدة يُفترض أن تكون حداثية بالكامل، وأن يُستبعد منها كل ميل طائفي أو تبعية للخارج، وبالتالي تنبني على مشروع وطني سوري، يُقِرُ بأنّ سورية محتلة الآن، وأن أدوات تلك الاحتلالات “النظام و(ب ي د) وفصائل وطبعًا الجهاديون” هي تابعة لها، ويتناقض دورها ووظيفتها مع مصلحة الشعب السورية بكل مدنه، وبذلك يفترض أن يحصن المشروع نفسه إزاء المشكلات الداخلية والخارجية، أي ضد كل ما يُفتت الهوية الوطنية ويُثمن دور الاحتلال الخارجي. المعركة معقدة، فإذا كانت الثورة من قبل تواجه النظام؛ فقد أصبحت الآن تواجه الاحتلالات.

وطبعًا ينبثق السؤال مجدّدًا وتكرارًا: ما العمل إذًا؟

المعارضة المُكرّسة فشلت في التصدي للواقع، بل أصبحت جزءًا منه، وليس لها أي دور خارج ما ترسمه لها “الاحتلالات”، وبالتالي كلامنا موجه إلى بقية تشكيلات المعارضة الثورية “الهزيلة”، فمهمتها الراهنة هي التلاقي من أجل جبهة سياسية واسعة، تحافظ على التباينات بينها، ولا تضع حذفها شرطًا للحوار، ولا يجوز تجاهل بقية الأطراف، والتقليل من شأنها بحجة أن التيارات الأخرى هامشية، وبالتالي لا داعي للحوار من أصله؛ وهذه عقلية إقصائية، يتميز بها السوريون بكثرة، ويجب التخلص منها، وهي إرثُ النظام فيهم، وإرثُ التاريخ كذلك، حيث الكلام للزعيم أو النبي فقط.

إذًا، يجب الإقرار بأن سورية محتلة، ويجب التمسك بالهوية الوطنية، والعمل من خارج المعارضة المُكرسة أو أي استقطابات إقليمية أو دولية، فالمشروع الوطني يجب أن يكون مستقلًا بالكامل. وضمن ذلك بدا، طوال السنوات السبع، أن أيَّ اختراقٍ للهوية الوطنية بميل طائفي يُدمرُها ويُدمّر الثورةَ وأيَّ حركة سياسية، كما جرى مع المجلس الوطني والائتلاف الوطني، ومع الفصائل العسكرية التي ظلت مفتتة، وتأسلم كثيرٌ منها، وظهرت ممارسات فئوية في المجال الإغاثي والتعليمي وسواه؛ القصد هنا أن المشروع الطائفي مشروع فئوي، يعتمد الطائفية سياسة، ويُنعش أسوأ أشكال الكراهية، ويفتت الهويةَ الوطنية، وأن الخيار الوطني هذا لا يحتمل التجريب، لا سيما أن لدينا سبع سنوات من الفشل. ضمن هذا الرؤية، هل يمكن الإقرار بضرورة إشهار حركة تحرر وطني، ما دمنا قلنا عن حالة سورية الراهنة إنّها محتلة؟

لا شك أن حالة السوريين، من ضعفٍ وتهتك اجتماعيٍّ وهوياتيٍّ وحجم الدمار واللجوء والموت والاعتقال الكبير، ستدفع كثيرين إلى القول إن الكلام عن احتلال وحركة تحرر هو نوع من الجنون، ونقلٌ لتجاربٍ أخرى إلى الواقع السوري، وإن الوضع السوري معقّدٌ، ولا بد من القبول بالاحتلالات، والتنسيق معها وإنتاج حالة مستقرة أولًا. وربما سيقول البعض إن كوريا الجنوبية تطورت، وينسى كوريا الشمالية طبعًا، وإن القواعد العسكرية الأميركية فيها، وهناك من سيسرد تجارب أخرى، بما يعزز رؤيته الرافضة لما حصل في أفغانستان والعراق وفي كثير من الدول التي أصبحت محتلة أو تُركت للخراب الكامل، كالصومال أو ليبيا أو اليمن أيضًا.

مقدمات هذا المقال، تقول إنّ السوريين معنيون بتشكيل مشروع وطني غير مرتبط بكل ما تتوضع عليه الأحداث، وبالبحث عن كل المشتركات الممكنة بين السوريين، والتحديد الدقيق لأسباب الرفض للاحتلالات، وما ستنتجه المؤتمرات التي ستُعقد مجددًا في حميميم، أو في “مطار دمشق الدولي” أو أستانا أو جنيف، وذلك إن تجاهلت مبادئ جنيف الأول، وكل القرارات التي ستكون مدخلًا للسوريين للبدء بتشكيل نظام حكمٍ يمثل مصالحهم جميعًا، ويكون على أنقاض الأدوات التابعة لمختلف الاحتلالات الراهنة.


عمار ديوب


المصدر
جيرون