(طفل يركض في الأساطير)



إن قارئ شعر حسن شهاب الدين بشكل عام يلحظ عمقه الرؤيوي، وبثه الإيحائي للرؤى بشاعرية مرهفة، في بساطة تنم عن عمق الذات وتجلياتها، فضلًا عن قوة المؤثر في الروح على مستوى إثارة الصور والتراكيب المبتكرة وإيحاءاتها المتنوعة، فيمكن الوقوف على شعرية النص البارزة عند حسن شهاب الدين، من خلال رموز الصورة الشفيفة التي تجسد عمق الإدراك للأثر المرسوم صورًا في ثنايا النص.

إن مجموعة (طفل يركض في الأساطير) الصادرة حديثًا عن دائرة الشارقة للثقافة والإعلام تسرد سيرة البراءة والتمثل الطفولي المتأرجح بين ماضي الشاعر وحاضره وغده، بين الــ “هو” والآخر؛ ما جعل بؤرة الصراع محتدمة في أغلب النصوص بين هذين العنصرين، فطفله الرجل، ينعكس تمامًا في الرجل الطفل، فكان على شاعرنا أن يرى بعين الطفل حينًا وبعين الرجل الذي صاره أحيانًا أخرى، لذا جاءت الصورة الرمزية الشفيفة مكتنزة بالعمق والتأويلات: من ذلك قوله مثلًا:

للوقت في كفيكَ صمتُ مدينةٍ      أبوابـــــــها الحيرى ســـــــــــــــــؤال مغلق

وســـــماء غرفتك انطفـــاء مجرة      وصدى قصيدك كوكب مغرورق

تنخلق الصور الرمزية الشفيقة حينما نجد أن (الوقت له صمت مدينة في كف آخره، ثم أن هذه المدينة أبوابها حيرى، وسؤال مستعصٍ).

التصاعد الفني في جملة حسن شهاب الدين ترتكز على هذه النقطة: بناء حدث رئيس في النص ثم طرح تساؤلات الأنا مع الآخر، بين المعنى والكلمة، فنلاحظ غياب الزمن مع وجود الحدث ضمن هذه الصورة فيمتزج الواقع بالحلم.

في سيرة طفل الأساطير، يغدو الشاعر هو مركز هذه الصورة وتكويناتها الشفيفة، فكأن الرغبة إلى النزوع والتجلي تملي عليه هذه المجازات الرمزية في بعث عالم شعريٍّ خلاق يخصه مع أساطير أطلقها في فضائه الشعري، فنراه يقول:

وأرتقي عتمة الأوراق منفردا

وأحرفي

تلد الدنيا

وتبتكرُ

وقلتُ

أمنح هذي الأرض في لغتي

ركنًا به من ضجيج التيه تستترُ

يتابع الطفل غوايته في التحليق، وخلق دنيا جديدة من بين أحرفه، وكأننا في حضرة متأمل صوفي، يمنح من عزلته ركنًا خاصًا لمن أراد أن يغرف من فلسفته وحروفه، ليكون مرسالًا جديدًا يخصب كل هذا الخراب، فتوالد الصور مع هذه الحالة من التقمص تتناسب مع لغتها الشفافة، فنراه يقول:

معًا

معًا

قصيدة وزورقا

وعالمٌ يتبعنا

كي يلحقا

معًا

معًا

حناءُ فجرٍ

ويدًا

نرسل للأرض

بريدًا مُشرِقا

فالشعريّة المتوسمة لا يمكن أن تتجسد من دون أن يكون لها تجلٍّ باطني في المدلول اللفظي، فكانت بنية “معا” وتكرارها للتأكيد على رمزية التشاركية في فعل الخلق والتجديد، ولا سيما أنها صارت “قصيدة ثم زورق محلق”، وكل ذلك مخلوق من روح الفنان، فالصورة الرمزية الشفيفة هنا اتصلت بعالمه الداخلي مع القارئ وجعلته شريكًا، فإذا كانت (يدًا) تعيد التشكيل والخصب، ومن خلالها الصامت أمسى ناطقًا والجامد متحركًا، فإن الصور الرمزية هنا جاءت لتأكيد شعرية المعنى وفقًا لخلق سياقي لا يخلو من التطلع إلى المعرفة الجديدة التي يتبناها الشاعر في مجموعته، الهدف منها بعث الدلالات وإشراك القارئ في عملية استنباط ما تختزنه الرموز اللغوية لتلك الدلالات في سياقاتها.

ثم نجد نوعًا آخر من التصوير، وهو المشهد الرمزي التصويري فهذه سمة بارزة في المجموعة، حين يخلق مشهدًا متكاملًا فيها تكتنز اللغة الرمزية، ثم يقيم بين العلاقات اللغوية مشهدًا تصويرًا، يتصوره الذهن، وإن كان عن طريق المزاوجة بين الكلمات والصور، فنراه يقول مثلًا:

بيتٌ من الشعر، مجنونٌ،

كأسلوبي

أحيا به فوضويًا

دون ترتيبِ

كتبتُه ثم شخبطتُ الوجود به

لكي يظلَّ وجودًا غيرَ مكتوبِ

كلُ الحروف وجوهٌ فيه

تشبهني

فالناس بيتي

وهذا من أعاجيبي

إن دخول الشاعر في علاقة جدلية كهذه، بين الوجود وبين بيته وبين القصيدة، ثم جعلها مسكنًا آمنا للناس، كان دخولًا استخدم فيه القيمة مع النوعية في الصورة الشفيفة، فقيمة هذا البقاء بالنسبة إليه نوعيةٌ فريدة.. حينما يقول إن الشاعر الذي ابتكر هو من سيكتبنا؛ وهو من سيدخلنا، باعتبار ما سيكون، “حين ندخل بيته”؛ فتتناول الأجيال ما تركه خلفه لنا من أدب وثقافة وفكر.

أخيرًا إن هذه الأمثلة كثيرة جدًا في هذه المجموعة، فكانت سمة واضحة فيها، وقد عرف الشاعر كيف يحول ما بداخله الشعوري إلى كيان لغوي وتصويري رمزي متماسك ومكتمل ولافت باختلافه وتميزه من غيره. فهكذا يتحول الشاعر إلى فنان يمحّص الحرف والكلمة والجملة، ليصنع من كل ذلك عالمًا متآلفًا في علاقاته وصلاته وحواراته وتنغيمه وهيكلته الخارجية والداخلية، هذه الهيكلة التي تقوم أساسًا على عنصر اللغة الخلاقة، لتخرج من مأزق المعجم والتفسير الواحد.

*حسن، شهاب الدين: طفل يركض في الأساطير، دائرة الشارقة للثقافة والإعلام، الإمارات العربية المتحدة الشارقة،2017.


محمد طه العثمان


المصدر
جيرون