صناعة سورية موالية: سياسات الأسد في الهندسة الديموغرافية



(*) الصورة: حافلة تقوم بإجلاء مقاتلي المعارضة السوريين مع أسرهم في منطقة الوعر المحاصرة في مدينة حمص في وسط سورية، بعد اتفاق محلي جرى التوصل إليه بين المعارضة والجيش السوري النظامي، في 22 أيلول/ سبتمبر 2016. لافتة مكتوب عليها “الأسد أو لا أحد، بشار وبس”. رويترز/ عمر صناديقي.

في آب/ أغسطس 2016، غادرت مجموعة من الحافلات الخضراء مدينة داريّا، وهي من ضواحي دمشق، وكانت تُحاصرها القوات الموالية للديكتاتور السوري بشار الأسد، منذ عام 2014.[1] حُشِرَ سكان المدينة ضمن حافلاتٍ، وبدؤوا رحلةً طويلة عبر خطوط القتال في سورية، نحو مستقبلٍ غير معروف. ولكونِها واحدةً من رموز المقاومة ضد الدكتاتورية؛ أصبحت (داريّا) رمزًا لسياسة النظام الإجرامية المتمثلة في التهجير القسري، وإعادة التوزيع الديموغرافي. يمكن رؤية الصور نفسها والنماذج ذاتها تقريبًا، في حمص، وحلب، والزبداني، ومضايا، وفي العديد من البلدات والقرى الأخرى، في جميع أنحاء البلاد[2].

السيناريو ذاته يتكرر دائمًا: بعد أشهرٍ أو سنواتٍ من الحصار والتجويع، يَعرضُ النظام على المدنيين، في المناطق التي يُسيطر عليها المتمردون، الخيارَ بين الموت أو النزوح.

هذه “الاتفاقات” ليست سوى واحدة من الأساليب التي تُستخدَم خلال الصراع لتطهير المجتمعات المتمردة، إلى جانب المذابح، والقصف، والحصار، والاغتصاب، والسجن، والاختفاء القسري. ونتيجةً لذلك، هناك حاليًا أكثر من 11 مليون سوري نازحٍ داخل البلد، وخارجه[3].

عندما يكون التخطيط والتهجير القسري المنهجي جريمةَ حربٍ، وجريمةً ضد الإنسانية؛ يترتّب على ذلك مسؤولية جنائية فردية. وفي تمييزٍ بالغ الأهمية، لا ينبغي الخلط بين التهجير القسري، وعمليات الإجلاء المؤقتة التي يسمح بها القانون الإنساني الدولي عند الضرورة لإنقاذ المدنيين. إنَّ ارتكاب جرائم واسعة النطاق ضد المدنيين، ثم تهجيرهم بدعوى حماية أرواح المدنيين، لا يمكن أنْ يُعدّ إخلاءً قانونيًا. وقد استخدم العديد من أطراف الصراع التهجيرَ القسري، بمن فيهم المتمردون والأكراد، ولكن نادرًا ما كان ممنهجًا، وعنيفًا مثل الذي استخدمه النظام السوري.

منذ بداية الحرب، استهدفت قوات الأسد بشكلٍ روتيني الأحياءَ السكنية، بل مدنًا بأكملها، لتطهيرها من جماعاتٍ يعدّها النظام معاديةً له. هدفت استراتيجية النظام الرئيسة إلى تحويل الثورة إلى صراعٍ عرقي طائفي، يمكن أنْ يُقدّم فيه الأسد نفسه على أنَّه الحامي الوحيد للأقليات في سورية، وتستند هذه الاستراتيجية إلى فكرة أن سياسة النظام الخاصة بالتهجير القسري تجري بين خطوط الصدع العرقية- الدينية في سورية. في الحقيقة، كان الهدف الرئيس لهذه السياسة، ولا يزال، الضغط على “الجماعة السنية”، وهي الأغلبية في سورية، وهو ما أدّى إلى تفاقم التوترات الكائنة بين الطوائف الدينية[4].

ما إنْ نجحت ميليشيات النظام في التخلص من السكان المُعادين؛ حتى استخدم النظام تكتيكات الأرض المحروقة، ونهب الممتلكات المهجورة لضمان عدم عودة السكان إلى ديارهم، وبغضّ النظر عن العنف الصريح، يمتلك النظام أساليبَ أكثر خداعًا، لضمان دوام هذا التفريغ السكاني. في عدّةِ مدنٍ مثل حمص، وداريّا، والزبداني، والقصير، أُحرِقت مكاتب السجلات العقارية، عن “طريق الخطأ” أو “من دون قصد”، لتدمير وثائق الملكية[5].

في إجراءٍ مكمّل، أصدرَ النظام مرسومًا رئاسيًا يُكّملُ تجريد مجتمعاتٍ بأكملها من ممتلكاتها؛ ووفقًا لهذه “الإصلاحات التشريعية”، يتطلب تسجيل الأراضي، والتنازع عليها، من الشخص المعني أنْ يذهب شخصيًا إلى المكتب الإداري، وهو إجراءٌ يجعل الدفاع عن الممتلكات مهمةً مستحيلة بالنسبة إلى النازحين واللاجئين[6]. وفي كثيرٍ من الحالات، جرى الاستيلاء، على الأراضي والممتلكات التي تركها النازحون، من قِبل الجماعات المحلية الموالية للنظام، وخصوصًا أولئك الذين ينتمون إلى “قوات الدفاع الوطني”، وقوات “الشبيحة”.

كشفت صحيفة (الغارديان) أنَّ العديد من القرى المهجورة، في المنطقة الواقعة بين دمشق والحدود اللبنانية، جرى توطينها من قبل الجماعات الشيعية، والعلوية، وما يبعث على القلق أنَّ الكثير قد تمَّ تقاسمه بين الميليشيات الشيعية من لبنان، والعراق[7]. وهناك حالةٌ مماثلة تحدث في مناطق أخرى يسيطر عليها النظام مثل حمص، حيث حاول العديد من النازحين الداخليين جمع ممتلكاتهم الخاصة، والعودة إلى منازلهم السابقة التي تحتلها عائلات علوية، والتي بدورها أبرزت على الفور وثائق ملكيّةٍ رسمية، كدليلٍ على ملكيتها الجديدة للمنطقة[8].

كلُّ هذه الأدلة معًا تُسلّط الضوء على كيفية تنفيذ النظام لسياسةٍ مخيفة من الهندسة الديموغرافية للشعب السوري. بعد السحق الوحشي للثورة السلمية، التي كانت علمانية في البداية، وبعد سنواتٍ من الجرائم البشعة ضدّ الإنسانية التي ارتكبها نظامه، يُدرك الأسد تمامًا أنَّ الجماعات السورية بأكملها لنْ تقبلَ أبدًا حكمه مرةً أخرى. فالقمع يخلق الخوف، ولكنّه يُدَّمر الشرعية والدعم العام، ويبدو أنَّ الدكتاتور عازمٌ على تصميم سورية جديدة “أكثر طاعة أو ولاء”، بغض النظر عن الدم المراق في سعيه نحوها.

في ضوء ذلك، كان للتهجير القسري أثرٌ مزدوج. فمن ناحيةٍ، سُمح للأسد بطرد السكان المعادين في المناطق التي يسيطر عليها، ومن ثمَّ رمي هؤلاء السكان في دوامةٍ من الجحيم والضعف الشديد، والفقر، مع فرصةٍ وحيدة للتعديل هي: قبول برامج النظام في “المصالحة” (التي تقسم أساسًا بالولاء للأسد)، أو تجريدهم من ممتلكاتهم، وإجبارهم على العيش في الفقر والعوز في المخيمات المكتظّة في الأرجاء السورية، أو الفرار من البلد بالكامل. ومن ناحيةٍ أخرى، يمكن للنظام أنْ يؤسس تحكمه الحصري في وظائف الدولة، في المناطق التي يطرد فيها معارضيه، مع إبقاء الجماعات الموالية له ٍفقط. ويتيح هذا النظام، على النقيض من أنظمة السيطرة الأكثر تفتتًا وفوضويةً في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، أنْ ينشر بصورةٍ فعالة أنَّ الأسد وحده قادرٌ على توفير قيادةٍ مستقرة وفعالة وإنسانية، وأنْ ينجز مهمات إقامة الدولة في سورية.

يجب على الأمم المتحدة، والوكالات الدولية أنْ تتوخى الحذر الشديد في عدم دعم هذه العملية من دون إرادتها. في حمص، تقدِّم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بالتعاون مع سلطات النظام المحلية، مساعدات إعادة الإعمار للمناطق التي كان يشغلها السكان المشردون سابقًا.[9] وفي هذا السياق، تسمح مِنح إعادة الإعمار هذه للأسد بالحفاظ على شرعيته باستخدام الصناديق الدولية، حيث تساعد النظام في تنفيذ أجندةٍ سياسية لنزع ملكية المجتمعات المعارضة، ويُكافأ أولئك الذين لا يزالون موالين لحزب البعث.

إنَّ عملية بشار الأسد الإجرامية في الهندسة الديموغرافية، التي تخدم غرض بقاء نظامه القمعي، ستخلق مشكلاتٍ هائلةً في تحقيق الاستقرار في البلاد، حتى بعد انتهاء الحرب. وهذا دليلٌ آخر على أنّه لن يكون هناك ظرفٌ لتحقيق سلامٍ مستدام وشامل في سورية، طالما ظل الديكتاتور جالسًا على عرشه في دمشق.

العنوان الأصلي Crafting a loyalist Syria: Assad’s policies of demographic engineering الكاتب         لورينزو باريلا Lorenzo Barella المصدر مركز حرمون للدراسات المعاصرة، برنامج الباحثين الزائرين الدوليين المترجم جيرون

[1] مارتن تشولوف، وكريم شاهين، سورية: البدء بإخلاء متمردين وعائلات من داريا، الغارديان، 26 آب/ أغسطس 2016، على الموقع:

https://www.theguardian.com/world/2016/aug/26/syria-evacuation-of-rebels-and-families-from-darayya-under-way

[2] آن برنارد، وهويدا سعد، خيار جنوني للسوريين في مناطق المتمردين: “الموت” أو الحافلة الخضراء، صحيفة نيويورك تايمز، 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، على الموقع: https://www.nytimes.com/2016/10/30/world/middleeast/once-propelled-by-hope-for-a-modern-syria-green-buses-now-run-on-tears.html ؛ ” عامان تحت الحصار، تنتهي بالتهجير”، الجزيرة، 14 نيسان/ أبريل 2017، على الموقع: http://www.aljazeera.com/news/2017/04/exchange-residents-begins-evacuation-deal-170414051642212.html

[3] الأرقام الرسمية للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، على الموقع: http://www.unhcr.org/syria-emergency.html

[4] روث شيرلوك، “تطهير” ميليشيات بشار الأسد لحمص من المسلمين السنة، التلغراف، 22 تموز/ يوليو 2013؛ ووحدة تنسيق المساعدة، التغيير الديموغرافي والتشريد القسري في سورية، حزيران/ يونيو 2017.

[5] مارتن تشولوف، توطن إيران المسلمين الشيعة في سورية للمساعدة في إحكام قبضة النظام، الغارديان، 14 كانون الثاني/ يناير 2017.

[6] مجلس حقوق الإنسان، تقرير اللجنة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن الجمهورية العربية السورية، A/HRC/36/55,، 6 أيلول/ سبتمبر 2017

[7] انظر الملاحظة رقم 3

[8] المعهد السوري، باكس، لا عودة إلى حمص: دراسة حالة عن الهندسة الديموغرافية في سورية، شباط/ فبراير 2017

[9] مصدر سابق


لورينزو باريلا


المصدر
جيرون