العسكري الأسود*



ما هدَّد به “العسكري الأسود” عصام زهر الدين، السوريين الناجين من إرهاب الطغيان، فيما لو عادوا إلى بلدهم، ليس نشازًا البتة، بل من متن النصّ، وصلب تكوين وبُنية عصابات الأسد المغتصبة للسلطة.

فالأسد الأبُ علّم معاونيه وحشا أدمغتهم، بأنه ما قام بانقلابه العسكري إلا لاستعادة مزرعةٍ مملوكةٍ -أساسًا- لآل الأسد وزبانيَّته وخدمه وحشمه، والعسكري الأسود عصام هو من مزارعيه وخدمه. وإعلام الأسد تدرَّج -طوال ثلاثين عامًا- في النحت والحفر والوشم، داخل أدمغة الناس، بأن إضافة اسم الأسد إلى اسم سورية ليكون: “أسد سورية”، لا يفي القائد حقَّه؛ بل الواجب إضافة البلد -واقعيًّا ولغويًّا- إليه، لتكون: “سورية الأسد”.

ولذا، ما من نشاز في تهديد العسكري الأسود السابق. فقد قال -من قبله- عساكر سود غيره، ما هو أشدّ هولًا وفجورًا وخرقًا لكلّ معتاد، أو طبيعي، أو يمكن للعقل هضمه واستيعابه. منهم مشهد عسكريّ أسود، وهو ينهال على متظاهر صفعًا ولكمًا ورفسًا، مهدّدًا إيّاه بالموت تعذيبًا، إنْ لم يقل على مرأى ومسمع كاميرا تسجّل وتصوّر أنْ “لا إله إلاّ بشار الأسد”؟

ما من نشاز -أبدًا- في مسلك هذا العسكري المؤلّه لسيده؛ لأنَّ الآذان سمعت، والأعين رأت -في مرحلة الثمانينيات- كيف خرجت مجموعة من عناصر المخابرات السود إلى شوارع حيّ الميدان في دمشق (والذي عُرف بعراقة سكَّانه، واعتدالهم الإسلاميّ الذي لمسه وشعر به كلّ مَنْ عاش معهم وبينهم من أيّ دين أو طائفة كان)، وهي تصيح بأصوات ليس فيها ذرّة من ارتعاش أو تهيّب، قائلة: “يا الله حَلَّك حَلَّك.. تحطْ حافظ محلَّك”.

وحتى مجموعة المخابرات الآنفة هذه، لا نشاز -أبدًا- في ما قامت به وأطلقته من هتاف، إذ سبقتها، أو لحقت بها (لا أهميّة كثيرًا للتدقيق في الزمن، لأنّ تاريخ سورية الحديث على مدار خمسين عامًا تقريبًا، تحت الكوابيس الأسدية بفرعيها) عناصرُ سرايا الدفاع، بزعامة رفعت الأسد، التي انتشرت في مختلف شوارع وأحياء دمشق، وهاجمت الفتيات المحجَّبات ونزعت حجابهن، وسط ذعرهنَّ وحقدهنَّ البالغين، واللذين سيُخلّفان -فيما بعد- ما يُخلّفانه من ردات فعل.

في هذا المسلك أيضًا، ما من نشاز -أبدًا- لو تذكّرنا أن عناصر السرايا، نفسها، حين اختطفت شابًا من ريف اللاذقية، كان ينتمي إلى تنظيم يساريّ سرّي معارض، وأُحضر إلى مركز العصابة، راح الزعيم يتأمّل وجه الشاب طويلًا، ثمّ يقول له بنبرة وعيد وغلّ: “ولك يا كلب! يا خاين! فوق ما خلّيناكم تناموا مع بنات الشام، عم تتآمروا علينا كمان!”. وهذه، في قناعة رفعت الأسد، من أسباب قيام أخيه حافظ بانقلابه العسكري.

وما من نشاز-أبدًا- في محتوى ما ساءل عنه “رفعت” الشابَ المعارض، إذ حدث وساءل زعيمُ عصابة السرايا -وقد تغوَّل وبات له مع سراياه وزن كبير- أخاه حافظ، مساءلة صِدَام عسكريّ، شهدت شوارع المزّة في دمشق مظاهره، حين تواجهت دبابات رفعت ودبابات حافظ، وكادت تشتبك، وتدمّر البلد.

وفي تجرؤ رفعت على حافظ، ما من نشاز -أبدًا- فقد تجرّأ كذلك عسكريّ أسود، كان أحد أعمدة سلطة الطغيان، يُدعى “علي حيدر”، حين كان زعيمًا لما يُعرف بـ “الوحدات الخاصّة”، ذات يومٍ في جلسة صحبٍ له، دار الحديث فيها عن دور وأهميّة القوات الخاصة، فانبرى علي حيدر إلى القول إنّ جماعته هي مَنْ حمت حافظ الأسد وسلطته في أحداث حماة؛ فوُجِد مَنْ يُخبر عمّا قال، فأطيح به بين يوم وليلة، واختفى!

فهل من المستغرب، أو النافر الشَّاذ، بعد هذا، وغيره الكثير، مما صار تعريفًا للحياة في سورية، بحسب ما عانى منها أهلها في ظلّ الأسدين، أنْ يُقدم عسكريٌّ، من لحم وشحم وجينات الطغيان وسلطته المغتصِبة للبلد، على تهديد أهل سورية النَّاجين لو أنهم عادوا إليها؟

نعم، فطس الآن هذا العسكري الأسود، بَيد أن دلالة ما هَّدد به -كما دلالات كلام وأفعال العساكر السود قبله- هي ما ستبقى حيَّة في ذاكرة السوريين الذين اكتووا بطغيان السلطة الحاكمة. ستبقى حيَّة لأجيال، وتلك هي جريمة العهد الأسدي الأشدّ عتوًّا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*”العسكري الأسود” اسم رواية قصيرة ليوسف إدريس


إبراهيم صموئيل


المصدر
جيرون