في الذكرى المئوية لثورة أكتوبر الاشتراكية



عندما أنهيت دفاعي عن أطروحة الدكتوراه، في كلية الفلسفة بجامعة موسكو عام 1971، قررت أن أمنح نفسي إجازةً قصيرة في لندن، عاصمة أحد أعرق البلدان الرأسمالية. قلت في نفسي يجب أن أزور بلدًا من تلك البلدان التي يتعارض نظامها تعارضًا تامًا، مع النظام القائم في الاتحاد السوفيتي، آنذاك.

على الباخرة التي أقلتنا من ليننغراد إلى لندن، التقيت أحد البريطانيين الذي كان يزور موسكو وغيرها من المدن الروسية. سألته: كيف رأيت الاتحاد السوفيتي؟ فأجاب على الفور: لا أعرف كيف استطعتَ العيش في هذا البلد أكثر من خمس سنوات. سألت: لماذا، ما الذي أزعجك؟ أجاب: أسبوعين، وأنا أحاول الحصول على تذكرة لمشاهدة (بحيرة البجع) في الـ “بولشوي تياتر”، ولم أتمكن، بسبب الزحام الشديد دائمًا أمام شباك التذاكر.

قضيت عشرة أيام في لندن، ولم أتمكن أيضًا من دخول مسرح الأوبرا والباليه، ليس بسبب الزحام، بل لأن ثمن التذكرة كان سيستهلك نصف ميزانيتي للرحلة كلها. هناك، في موسكو، كان ثمن التذكرة في الصفوف الأولى من المسرح الشهير ثلاثة روبلات (أقل من دولار واحد بأسعار تلك الأيام)، أما في لندن، فكان عشرات الجنيهات الإسترلينية. كانت صديقتي الروسية تقف في الطابور لشراء تذكرتين لمسرح (البولشوي)، منذ ساعات الفجر الباكر حتى في شتاء موسكو القارس، ولم يكن الزحام ناجمًا عن رخص التذكرة وحسب، بل أيضًا نتيجة للمستوى الثقافي الرفيع الذي كان يتمتع به الشباب السوفييت.

كانت السلطة السوفيتية سخيةً في الإنفاق على الصحة والتعليم والثقافة؛ فلم يبق في البلاد الشاسعة جائع أو أمّي أو مشرّد. كان رسم الدخول إلى قاعة السينما ربع الروبل، وكان ثمن أسطوانة الموسيقى الكلاسيكية روبلًا واحدًا، وكان ثمن الكتاب أقل من كلفة تجليده. كان أي موظف أو عامل يتمكن من قضاء ثلاثة أسابيع على شاطئ البحر الأسود أو شاطئ بحيرة البايكال، بتكاليف لا تتجاوز دخله الشهري، متضمنة ثمن تذكرة الطائرة أو القطار والطعام والشراب والرقص والسينما، وكل وسائل الترفيه الأخرى.

ومع ذلك، كنت أرى أعدادًا من الشابات يقفن في طوابير طويلة لشراء “جرابات نسائية” من صنع سورية؛ ذلك أن الدولة السوفيتية كانت تفضل أن تبني في سورية سدّ الفرات، وأن تزود الجيش السوري بالدبابات والطائرات والمدافع، مقابل الجوارب والبشاكير والشراشف. لكن سلطة البعث، ثم سلطة الأسد في سورية، ومثيلاتها من سلطات “حركات التحرر الوطنية” (كما كان السوفييت يسمونها) كانت ترد الجميل، بالتحول عن “النهج الاشتراكي”، وتتنكر لـ “الصداقة” مع الاتحاد السوفيتي، متى عنّ لها ذلك.

هل شكلت هذه السياسة سياسةً مساعدة لـ “حركات التحرر الوطني” التي لم تكن في الواقع سوى حركات التنكيل بالشعوب ونهب ثرواتها، وتكديس ثرواتها في بنوك الغرب الرأسمالي، أقول هل شكلت هذه السياسة التي أضعفت الاقتصاد السوفيتي، وحرمت شعوبه من الارتقاء بمستوى معيشتها إلى مستوى معيشة شعوب الدول الرأسمالية، أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي، ثم المنظومة الاشتراكية كلها؟ بالتأكيد: نعم.

لكن هذا لم يكن السبب الوحيد، وربما لم يكن السبب الأهم. السبب الأهم كان حرمان الناس من الحرية؛ كانت نظرية ماركس، ثم لينين، تقول بدكتاتورية “البروليتاريا” التي تعني دكتاتورية أكثرية الشعب على الأقلية التي كانت تستغله، وذلك كمرحلة للانتقال إلى إلغاء كل دكتاتورية أو استبداد، لكن الممارسة العملية بيّنت أن دكتاتورية البروليتاريا تحولت إلى دكتاتورية للحزب الحاكم، وهذه تحولت إلى دكتاتورية اللجنة المركزية، ثم إلى دكتاتورية الأمين العام.

كان ماركس يعتقد أن إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج سيؤدي، في نهاية المطاف، إلى إلغاء استغلال الإنسان للإنسان؛ ثمّ إلى تحقيق الحرية الحقيقية لجميع الناس، تلك الحرية التي لا يمكن أن تتحقق إلا بإلغاء جميع أشكال الاستغلال. كان هذا أقرب إلى الحلم، أقرب إلى “اليوتوبيا”، لكن النظرية نفسها ما تزال صحيحة؛ إذ إن إلغاء الاستغلال يؤدي إلى الكرامة والحرية، لكن شروط تحقق ذلك لم تتوفر للدولة السوفيتية والدول الأخرى التي سارت في ركابها، بالضبط لأن السلطات الحاكمة في تلك الدول قمعت الحريات، بحجة القضاء على الطبقات والفئات المستغِلة، تلك كانت السقطة الكبرى للأنظمة التي سُمّيت اشتراكية.

وعندما حاول غورباتشوف تصحيح الخطأ، بإطلاقه “البيريسترويكا” (إعادة البناء) و”الغلاسنست” (حرية الرأي)، كان الوقت قد فات. كان المتنفذون في جهاز الدولة قد راكموا الأرصدة على حساب الشعوب، وكانت القوى المتربصة بأول تجربة اشتراكية في التاريخ قد استعدت للانقضاض عليها؛ فما إن رفع الغطاء، غطاء الديماغوجيا والعمى الأيديولوجي، حتى حصل الانفجار، وسقطت التجربة.

نشهد اليوم، بكل أسى، كيف ورث بوتين أسوأ ما في تجربة الاتحاد السوفيتي، ورمى في سلة القمامة كل ما عرفته من إيجابيات، بل زاد على ذلك، وبدلًا من مساعدة الشعوب على التحرر من ربقة الاستعمار؛ جعل روسيا قوةَ احتلال استعمارية، لا تقل سوءًا عن القوى الاستعمارية التقليدية. ويكفي للدلالة على ذلك، تدمير مدن سورية، وقتل أهلها، وتشريدهم، في محاولة للحفاظ على سلطة الأسد، باعتبارها السلطة الوحيدة التي ستتيح استمرار احتلال روسيا لسورية.


خضر زكريا


المصدر
جيرون