مبدعون سوريون.. في تغريبتهم



في تغريبتنا، نبدأ من الصفر في كلِّ مرَّة، وغالبًا، من تحت الصفر! لهذا؛ عُدتُ إلى أول عهدي في الصحافة قبل 38 عامًا؛ من حيثُ بدأتُه، بالربورتاجات وبالحوارات!

ثلاثة أسئلة وَجَّهتها إلى أكثر من 15 مُبدعًا ومُبدِعةً في تغريبتهم، فاعتذر بعضهم؛ ولم يردّ البعض حتى بالاعتذار؛ وجاءتني ردودٌ من نصفهم، مشكورين.

س 1- كيف تكتب بعيدًا عن وطنك سورية؟

س 2 – هل استطعتَ نشر أعمالك؛ ما المعوقات؟

س 3 – هل دعتك وزارة الثقافة في الحكومة للمشاركة في نشاطٍ ما؟

أجاب حسان عزت عن الأسئلة الثلاث معًا، بجوابٍ شعريّ واحدٍ فقط!:

“أكتب بعيدًا عمّن أُحِب.. لأستحضره ناصعًا كما لم أره من قبل، وكأول رؤيتي له.. مدهوشًا به، ومُدققًا في سماته وتفاصيله، بل.. لأريده معي وجدانًا وروحًا.

قالوا: ابتعد لتراني، وأغمض عينيك حتى تراني.

كثيرًا ما أتأمّل نفسي والأشياء من حولي، وأنا على عتبات الحب الأولى، كيف أتشرّب صفات وملامح الحبيب الكليّة، والملامحَ التي تُميّزه وتُشكّل صورته! بدايةً أكون مخطوفًا به ومدهوشًا بكائن آسر، ثم مُتأملًا، ثمّ مُدققًا، وأنا في خطف الحلم، لأعرف من هو. فهل سورية، بكلّ ما تعنيه لنا، ترتسم في الغياب أو الحضور أو في كليهما معًا، لكنها في الغياب، ترتسم بكُلّيتها البعيدة واقعًا وتاريخًا وعلاقةً وحنينًا”.

عن السؤال الأول: كيف تكتب بعيدًا عن وطنك: سورية؟ أجاب الشاعر والناقد خضر الآغا:

“الكتابة بعيدًا عن سورية تشبه الصراخ في الكابوس”. ثم تابع قائلًا:

“في الكابوس، تصرخ وتصرخ، فتظنّ أن مَن حولك يسمعك، ولكن، بعد قليل، تستيقظ لتدرك أنك كنت في كابوس، وأن صراخك كان هناك فقط، وأن أحدًا لم يسمعك. هكذا هي الكتابة خارج سورية.

لديّ الآن تفكير حقيقي عن جدوى الكتابة، بعد أن سطعت في سورية حقيقة صفيقة وعارية، وهي أنّ الكتابة لم تفعل شيئًا للناس، ولم تُفِدهم في شيء، لم تُنقذهم من موتهم اليومي، ولم تُطعمهم في شقائهم، ولم تمنعهم من الغرق في البحر، ومن الموت في الغابات، وانطلاقًا من هنا، أشعر بأنّ الكتابة مُجرّد مُمارسة مُتعالية، لكنها من جهةٍ أخرى تمنح وهمًا ما، وهو أننا نفعل شيئًا! الكتابة خارج سورية، هي تطبيق عمليّ لهذا الوهم”.

أجاب القاصّ إبراهيم علوش:

“الكتابة تكاد تُعادِل اليأس، وبخاصةٍ أنك فقدتَ كلَّ إمكانات العيش في المهجر أو في أماكن النزوح، وبعد أن تبذل جُهدًا في التفكير، وفي كتابة أفكارك وعواطفك، بينما تحتاج إلى مساحات واسعة من الترجّي والنِفَاق، من أجل النشر ناهيك عن كون النشر غيرَ مأجورٍ غالبًا؛ وإذا كان مأجورًا، فإن المَطمَطة والفوقية والتنظير والاستخفاف هو ما ينتظرك”.

ويُتابع علوش: “أيام النظام، كان النشرُ للمُقربين والمنافقين؛ والأجر زهيدٌ جدًا لغيرهم، أمّا اليوم فمُنافِقو الثقافة -أيضًا- ينشرون بالقِيَم البعثيّة المُتأصلة نفسها؛ بل يعتبرون أنّ أيّ منبرٍ ثقافي هو منبر خُطَبِهِم الثقافية التي تُشبِه الخُطَب الدينية والخُطَب القومية الشعاراتية المُتسِمة بالتحقير والاستعلاء والاتهامات، أمّا المنابر الخليجية التي يُديرها بعض السوريين واللبنانيين فتُمَارِس فوقيةً لا معنى لها، وبخاصةٍ مع وجود مُحتاجين إلى المال أو الشهرة؛ ممّا يجعل الكتابة في القضية السورية أمرًا بالغَ التعقيد، وسط الأكاذيب والمُبالغات والافتعال، ناهيك عن موجة التحقير الفيسبوكيّة للمُثقفين، واتهامهم بالقُصور والخيانة والجُبن وما إلى ذلك، ممّا تُبدِعُه مُخيِّلةُ جماعات “الكَنَبَة” المُسترخِينَ بلا مُبالاة، وبلا أيِّ حِسٍّ بالمسؤولية”.

وأجاب الشاعر فرج بيرقدار:

“عندما تنضج الفكرة، أو تأتيني البارقة، أكون مُهيّئًا لكتابتها.. هذا مع الشعر، أمّا مع المقالة أو النثر بصورة عامة، فالأمر أسهل، يكفي قليلٌ من التركيز والتأمّل والتذكّر، واستدراج التداعيات، والربط بين كلّ ذلك”. أضاف بيرقدار: “لم يتغيّر الأمر بالنسبة إلي، لا قبل السجن ولا بعده، ولا حين كنتُ في سورية.. ثمّ صرت في أوروبا”. وختم قائلًا: لديّ أوطان كثيرة، غير أن الكتابة هي وطني الأجمل.

أمّا الشاعرة مها بكر فكان جوابها شعريًا أيضًا:

“هنا أكتبُ بخوف عصفورٍ أن تقترب منه صلابته، وبجسارة نهرٍ يجري بلا إيمان أن تنتهي الحروب والضغائن يومًا، لم تكن هجرةً بل انتماءً.. حددتُ أنا شكلَهُ بهويةٍ مفتوحة على قلبي، بما يجعل الشِعر يُحِبُّ رِفقَتِي ويُعجبه العيش معي تحت سقفٍ تسنده الأجنحة”.

وأجاب القاصّ عبد الرحمن حلّاق:

“طوال السنوات السبع الماضية، لم أستطع الكتابة، سوى بضع مقالات هنا أو هناك، أحسستُ بعطالةٍ حقيقية، أمام أنهار الدم وصور القتلى وأخبار التقدم أو التراجع، ومع تنامي الشعور باليأس والإحباط، أمام إقصاء السوريّ خارج لعبة الحلّ، وتهميش دوره تمامًا في مستقبل البلد؛ بدأ التفكير جديًا بأنّ الكتابةَ شكلٌ من أشكال المقاومة، وبخاصةٍ أن هذه السنوات السبع جعلت من كلِّ سوريٍ موضوعَ قصةٍ أو رواية، وقد بدأ التفكير ينحو منحى عمليًا منذ بضعةِ شهور، وأعمل الآن على رواية جديدة، أرجو لها أن تكون على مستوى هذه الأحداث”.

وكان لعارف حمزة هذا الجواب:

“ربّما الحسنة الوحيدة التي تُحسب للنظام الأسديّ، أنّه قد جعلني أعيش المنفى، وأنا في بلدي سورية”. ثمّ ُتابع: “لذلك كتبتُ في بلدي كمنفى رقيق، إذا جاز التعبير، ثمّ أكملتُ الكتابة وأنا في تركيا، وكان منفًى رقيقًا أيضًا، على أيّ حال. وفي ألمانيا عُدتُ لأكتبَ مُجَدّدًا، ولكن لطالما شعرتُ بأنّني مُقِلٌّ في الكتابة؛ لأنني أشعر بأنّي قارئ في الدرجة الأولى، ثمّ جاءت كتبي الشعريّة بشكلٍ مُتوَالٍ، لتصبح سبعةَ كُتبٍ شعريّة، وهو رقم كبير ربّما، لسجناء مثلنا عاشوا في بلدٍ مثل سورية”.

وعن السؤال الثاني: هل استطعتَ نشر أعمالك؛ ما هي المعوقات؟

أجاب الشاعر والناقد خضر الآغا: “لا.. فبعد خروجي من سورية لم أنشر أيّ كتاب، ولهذا ثمَّة عاملان، الأول: شعوري باللا جدوى من الكتابة، كما قلت في إجابتي السابقة، أما الثاني: فهو أنني لا أحبُّ الخضوع لشروط بعض الناشرين التي تستند إلى شعورهم بحاجة الكُتّاب للنشر، ومن ثمّ استغلال ذلك أسوأ استغلال! إضافة إلى شعوري بأن مُهمَّتي في بلدان المنفى، وبخاصةٍ بعد أن ضاقت بنا السُبُل عن فعل أيِّ شيءٍ ذي معنى للسوريين، هي فَضحُ نظام البراميل على مدار الساعة، وبكافة الطرق المتاحة، وهو ما أقوم به كلّما وجدتُ إمكانيةً لذلك”.

وأجاب عبد الرحمن حلاق:

“لديّ عملان منشوران قبل الثورة، وقد وجدتُ بعض الإعاقة في نشر روايتي: (قلاع ضامرة)؛ التي كُنت مُصِرًا على نشرها في دار نشرٍ سورية، نظرًا إلى خصوصية موضوعها، وقد تمت الموافقة بعد حذف بضع فقراتٍ مُتفرقة منها، وطُبعت في (دار الحوار)، ولم أنشر بعدُ شيئًا منذ 2011”.

بينما قال فرج بيرقدار:

“حين كنت في سورية، كانت لديّ سبع مخطوطات، نشرتُ إحداها عبر (دار حوران) التي لا أعرف كيف حصلت على موافقةٍ لنشر مخطوطٍ لي، ونشرتُ المخطوط الثاني عبر وزارة الثقافة، إلا أن المُخابرات رفضت توزيع الكتاب، فبَقِيَ في مستودعات الوزارة إلى أن تهيَّأ لي ابنُ حلالٍ، فهَرَّبَه من مستودعات الوزارة”.

وأضاف: “حين جئتُ إلى أوروبا، انفتحت عليّ أبواب النشر وأبواب الترجمة. قد يكون أحد الأسباب أنّي في أوروبا صرت أكثر انتشارًا وشهرة، وبالتالي صارت كتبي مرغوبةً للنشر عربيًا وعالميًا”.

وأجابت الشاعرة مها بكر:

“بعيدًا عن هموم النشر والصعوبات وما يعتري هذا الطقس المُعتِم من شللية خرافية ومزاجية شريرة في انتقاء النصوص والقصائد، كنتُ أكتب بصمت وبلا ضجيج، لتبقى قصائدي معي، مركونةً في زاويةٍ ما، ثمَ إنّي كائنةٌ كسولةٌ في توثيق نتاجي والتسويق له؛ وخجولة جدًا أن أدَّس قصائدي في رسالةٍ لينشرها أحدهم”!

تختم الشاعرة: “كنتُ أكتب وأنفخ في الهواء الذي من حولي بسعادة؛ كما لو أني أُطعِمُ طيورًا جائعة”.

بينما أجاب القاصّ إبراهيم علوش: “لم أنشر أيًا من أعمالي، بكلّ أسف، مُذ غادرتُ سورية”.

وقال عارف حمزة في جوابه:

“هناك كتاب شعريّ جديد لي سيُنشر بعد أسابيع في مصر، وسيكون بعنوان (عشب مكسور من وسطه). وهناك أنطولوجيا باللغة الألمانيّة كنتُ فيها مُشارِكًا بنصٍّ طويلٍ يحمل عنوان: “مثل سيروم مُعلّق في يدها”، وحقّق الكتاب مبيعاتٍ وحضورًا جيدًا. وثمّة كتابٌ سيُنشر العام القادم عن الشعر السوريّ مُترجمًا إلى الألمانيّة، وسأكون مُشارِكَا فيه بعدَّة قصائد، ترجمها شعراءٌ ألمان معروفون”.

ثمّ أضاف: “المعوّق الكبير هو اللغة الجديدة -الألمانية- التي لا أُتقِنُها جيدًا حاليًا، ومع ذلك هناك الكثير من الفرص، تعرّفت على كتاب ألمان جيّدين، وهم ينظرون إليّ ككاتب. ولكن لا يوجد هنا الآن شيء اسمه تفرُّغ للكتابة؛ عليَّ أن أجدَ عملًا وأُتقِنَ اللغة، وسأكون سعيدًا بدفع نوعٍ جديدٍ من الضرائب، التي تختلف عن الضرائب التي دفعناها في مسقط الرأس”.

عن السؤال الثالث: هل دعتك وزارة الثقافة في الحكومة للمشاركة بنشاطٍ ما؟

أجاب فرج بيرقدار بحزم: “لا.. وذلك من حُسن حظي”.

وقال الشاعر والناقد خضر الآغا: “الحكومة السورية المؤقتة؟ عدا عن سؤال: ماذا تفعل.. أصلًا، هذه الحكومة! ينبغي أن نسأل أيضًا: هل توجد وزارة ثقافة في الحكومة المؤقتة؟ وماذا تفعل أيضًا؛ أنا، كغالبية السوريين، مُتابِعٌ بشِدَّة لِمَا يجري في بلدي، ولكن بالفعل لا أعرف وزارة الثقافة في الحكومة المؤقتة، لا أعرفهم.. ولا أعتقد بأنهم يعرفونني!”.

بينما أجابت الشاعرة مها بكر: “أنت تعرف، يا عزيزي، أنّ أكثر النشاطات التي كانت تُسعِدني هي التي تُقام في بيوتات الثقافة، أقصد: المنازل الآمِنة البسيطة لأناسٍ مُهتمِّين بالثقافة حقًا؛ ويُسعدني الشعر الذي كنتُ ألقيه في قلوبهم، ثمّ الغناء بعد ذلك، أو تلكَ التي ألقيها الآن.. في الهواء الطلق، وحدي، بينما أسير في الشوارع.. برفقة الطيور والأشجار والغيوم والأرصفة التي يسكنها الوحيدون والعاشقات اللواتي يرغبن في الذهاب معي إلى بيت ريتسوس”.

أمّا عبد الرحمن حلاق، فأجاب: “أعتقد أن وزارة الثقافة في الحكومة المؤقتة لم تكن أكثر من مُكَمِّل صغير في الصورة العامة، وأعتقد -أيضًا- أن هذه الوزارة لا تعرف غالبية الكتاب السوريين، ولست متأكدًا إن كانت تستطيع التمييز بين مُؤيد للثورة ومؤيد للنظام من الكتاب الذين تعرفهم، للأسف كانت الوزارة والحكومة المؤقتة، والائتلاف بالمجمل -على أهمية وجوده- مجرد سوقٍ كبيرةٍ ضمَّت العديد من اللصوص والمُنتفعين، على حساب الدم السوري. وعلى الرغم من مُتابعتي اللصيقة للأحداث، لم أسمع خلال السنوات السابقة أن الوزارة تعهّدت أنشطةً ثقافية مُعينة.. سوى ما يمكن عَدُّه على أصابع اليد الواحدة”.

وظنَّ صديقي عارف حمزة بأنّي أسأله عن وزارة الثقافة في الحكومة الألمانية المؤقتة! ولم ألفت نظرَهُ إلى هذا.. فقد وجدتُ في جَوابِه مُفارقةً تراجيكوميديّة:

“لا أحد يلتفت هنا إلى وزارة الثقافة، هنا.. يُوجد سوق للنشر وللقراءات وللجوائز بكلِّ معنى الكلمة، وهيئات مُحترمة تُعنَى بالثقافة، دعتني إلى العديد من المشاركات.. ولا أعرف إن كانت تتبع لوزارة الثقافة أم لا، وبخاصّةٍ أن لكُلِّ ولايةٍ ألمانيّةٍ مكتب للثقافة أو.. وزارة للثقافة ربما!”.

وأضاف: “دور النشر الألمانية والإعلام لها أيادٍ طويلة في تحريك سوق النشر والقراءات، وأنا من الناس الذين يقفون الآن على أبعدِ شاطئٍ منها.. لكن مَن يدري متى نُبحر من جديد؟”.

وكانت إجابة القاصّ إبراهيم علوش: “مرّةً.. جاءتنا وزيرة الثقافة في الحكومة المؤقتة إلى أورفا التركية، وجاءت تطلب منّا الدعم.. بينما نحن نحلم بدفع أجرة المنزل آخرَ الشهر! كادت تُبكِينا على وضعها! لكنها كانت كاذبة في كلِّ وُعُودِها وأقوالها، كانت مثلَ أيّ أمين فرقةٍ حزبية أو كمُساعدٍ أول في المخابرات. هذه المناصب في الحكومة المؤقتة لا دخل لها بالمضمون، ولا بالثورة، تهتمُّ بكيف تبدو للدول وللمنظمات وللإعلام الخارجي، وكيف تصطاد المُنافِقِين، وحسب”.


نجم الدين سمان


المصدر
جيرون