سلفيٌّ يكتب الروايات سرًا في زنزانة المؤهلات العليا



أثناء تجوالي بين روابط تحميل الكتب، لفت انتباهي عنوان هذه الرواية، ولا أخفي أن صورة الغلاف جعلتني أعرض عن تحميلها، تجاهلتها بغرور العارفةِ كلَّ شيء عن السلَفيين، ومضيت أبحث عن جديد الكتب والروايات وتفكيري مشغول بالعنوان، عدت إليها من جديد بفضول من تريد أن تعرف: لمَ يكتب السلفي الروايات سرًا، والرواية ليست محرمة في الإسلام؟ الأحاديث النبوية مروية، وسير الصحابة والتابعين مروية، علاوة على كتب التاريخ ومعظمها، بل كلها أخبار وروايات، وفي القرآن الكريم قصص شتى، كقصة يوسف، وأخبار عن الأولين وأساطيرهم، فلمَ يكتب السلفي الروايات سرًا، ويرويها شفاهة؟ هل لأن جبريل قال للنبي: اقرأ، ولم يقل له اكتب، فغلب النقل على العقل؟

(سلَفيّ يكتب الروايات سرًّا) رواية للكاتب المصري ماجد طه شيحة، صدرت عن دار “دوّن” للتوزيع والنشر، عام 2014. بطلاها/ أبطالها (س) و (م)، ليسا شخصين، بل نموذجان فقط من نماذج كثيرة لأفراد قذفتهم أرحام أمهاتهم إلى الجحيم، ونبذهم المجتمع إلى هوامشه النائية التي تهتم بها الشرطة والمخابرات. (س) و (م) تخرجا في الجامعة، وصارا (من ذوي المؤهلات العليا) الذين لهم مهاجع خاصة في السجون وزنازين خاصة في أقبية المخابرات. تفاصيل المكان المسمى وطنًا تضيق عليهم، وتضيق بهم: الشوارع مزدحمة، شمسها حارقة وبردها قارص، البحر والكورنيش للسائحات والسائحين، ممن ينزلون إلى الماء بثياب البحر، والمقاهي مكلفة، والحدائق العامة مملة، ولا تحمي، لا من الحر ولا من البرد، المساجد ومكتباتها يمكن أن تكون أفضل وأرحم، إن لم يتخلوا عن كبرياء شهاداتهم الجامعية، ويقبلوا بالمتاح. المسجد والسجن أو البيت والزنزانة لأمثال هؤلاء، هما قطبا اللا وطن، الذي ينتمون إليه.

ولكن ما هو الانتماء لواقف على جزيرة، ليست سوى حوت كبير، لا يلبث أن يغوص بمن فوقه إلى أعماق موحشة وباردة؟ “للانتماء مرادفات: 1– دفء الجماعات. 2– التكريس. 3– الفناء الصوفي. 4– الغباء الخلوي، التحول إلى ترس، والصبر الطويل على قانون الخطوة التِّرسية، ترتيب الخطوات، وبطء الخطوات، ووحشية الحركة التي لا ترحم. 5– وهو التعريف الأخير، الانتماء مجرد غباء”. (ص 50)

“في أدراج مكتبته، وتحت وسادته، وفي جيب سترته، تتناثر أوراقه في كل مكان.. لكنه يخبئها بعناية عن أعين الآخرين، يحسبون حالة الشرود التي يعيشها ما هي إلاّ تأمل وتسبيح، يحتفظ بالسر لنفسه، ولا يبوح به لأحد”. هكذا تتقلص الحياة إلى حكاية، في مجتمعات تحكي ولا تعيش. الحكي ظِلٌّ باهت للحياة، والحكايات والمرويَّات جثث متفسخة في مسامها. ميزة هذه الرواية أن بطلها لم يكن يبحث عن “الحقيقة”، بل عن سبيلٍ ما إلى الحياة.

إذا سألنا أنفسنا: ما الذي يحمل الإنسان على أن يكون سلفيًا! ما الذي يحمل خريجي الجامعات على أن يصيروا سلفيين، إذا لم يكونوا سلفيين بالفطرة أو بالوراثة أو بالولادة، لا بالتربية والتنشئة والتعليم والتلقين؟ وهل كل من يوصف بأنه سلفيّ هو كذلك بالفعل؟ الاحتمالات كلها واردة: نعم أو لا أو نعم ولا. والسؤال الأهم: لماذا يكتب السلفي الروايات سرًا؟!

حكاية (سين) وجزء من حكاية (ميم)، هو الجزء الأول من الرواية، وامتداد الحياة الماكرة بين “سين” و”ميم”، الحياة التي يرسمها الآخرون، “الآخرون هم الجحيم”، حسب تعبير “سارتر”، حكاية كل المهمشين، والمنسيين والمنبوذين، حكاية الظلم والعبودية، حكاية الأحلام المغدورة والمسروقة، حكاية الجنة والنار، حكاية الدين والسياسة التي لا تنتهي.

(سين) شاب متعلم، ضاقت به السبل في البحث عن لقمة العيش، وجدها مجبرًا في مكتبة المسجد الذي كان يرتاده لراحة قدميه المتهالكتين من البحث، “وجدت نفسك مع الوقت عنصرًا أساسيًا في دورة حياة مفرغة مسلوبة الجوائز، تشتري أهرام يوم الجمعة، لا السياسة ولا أخبار الفنانين ولا حوادث الطرق والقتل ولا قصص المعذبين في بريد الجمعة الشهير، كل بغيتك هي صفحات الإعلانات المبوّبة، صفحة هادئة مثل وجه عجوز على المعاش، لم يعد يطمع في شيء من الحياة”. (ص 20)

تدور أحداث الرواية حول الجماعات الإسلامية المتطرفة، والظروف التي أدت ببعض الأشخاص إلى الانتماء إلى هذه الجماعات، وهم مجبرون على ذلك، في حقبة زمنية قريبة، تمتد بين ثورة يناير إلى الوقت الراهن، في وقت ازداد فيه العنف وتسلط الأجهزة الأمنية على كافة شرائح المجتمع، واندساس عناصرها بين أفراده للتجسس ونقل الأخبار.

يتوجه الكاتب بروايته إلى مجتمعٍ شط بأحكامه على السلفيين، على لسان سلفيّ اضطرته الظروف إلى أن يكون كذلك، بينما هو متطلع إلى مستقبل سرقته المحسوبيات الطبقية من بين يديه، يسرد قصته بلغةٍ جميلة وسريعة، تتماوج بين الفلسفة والصوفية، تنبه القارئ والقارئة إلى أن السلفيين بشرٌ مثلنا، يحبون ويكرهون ويتذوقون طعم الاستبداد والتهميش والنبذ من الحياة العامة، مما يولد لديهم ولدينا مشاعر الكراهية والميل إلى العنف، لكن عنفهم هو ردة فعل على عنف مركزي معمم، حال بينهم وبين الاعتدال.

السلفيون الحقيقيون هم قادة الجماعات والمجموعات المتطرفة، الذين يبحثون عن دور ومكانة في السلطة، أو يبحثون عن السلطة نفسها، وعن مصالحهم الخاصة المفصولة عن المصلحة العامة في المجتمع، أي هم من ينشدون السلطة وامتيازاتها ومغانمها، وأسوأ ما عند السلفيين، هداية المهتدي وزعم المسؤولية عن خلاص النفوس (مسلم يريد أن يهدي مسلمًا مثله)، حالهم حال التقدميين في الأحزاب السياسية، يريدون أن يجعلوا من المواطن وطنيًا متناسين أنه مواطن مثلهم تمامًا، ولا وطنية بلا مواطنة متساوية.

أطلق (سين) لحيته، ورضي بما قدمته له المكتبة من إيراد شهري، مضطرًا، لا مختارًا، الحاجة ترضُّ الإرادة، وتكبلها، وتذلها، على عكس ما يتطلع إليه من فنٍ وإبداع، الحاجة دفنت علنية مواهبه؛ فأصبح يكتب سرًا، كمن يمارس العادة السرية، أو كمن يكتب منشورًا في حزبٍ سياسي يدعو فيه إلى الثورة ضد ما هو سائد ومألوف. علنية الأدب والفن والموسيقا غير مسموح بها في مجتمعٍ ذي نظرة أحادية، تزداد انغلاقًا يومًا بعد يوم، أي مجتمع مبني على الموروث الاجتماعي والديني الذي لا ينفك يحكم بالقيم العتيقة والمسلمات غير القابلة للتفكير فيها، بله الشك والنقد. طلب منه الطبيب شريكه في الزنزانة، عندما عَلِم أنه يكتب القصة القصيرة والرواية، وأنه مولع بموهبته منذ الصِغر، أن يعرض كتاباته على الشيخ لإبداء رأيه فيها، إما أن يوافق وإما أن يرفض.

السلطة الدينية لا تقل تعسفًا واستبدادًا عن السلطة السياسية، وهي أكثر تعصبًا وأشد خطرًا على المجتمع في فكرها المتجمد والمتصلب الذي يحاصر حرية الفرد واستقلاله، وحرية المجتمع. من هنا يولد التعصب فالعنف فالإرهاب.

الرواية عبارة عن رسالة إنسانية في الدين والإيمان، موجهة إلى المجتمعات المتدينة والمتطرفة في إيمانها، حيث يفرق بين الدين والإيمان: “الدين ليس بحاجة إلى كتب تُقرأ ولا إلى معلمين، البداوة هم المتدينون الأساسيون”، أي الدين هو دين الفطرة الذي يهدي البشرية إلى العقل والتعقل، وقبل كل شيء يهديها إلى إنسانيتها في التسامح والحب والجمال، أما الإيمان فيجعل من الفرد تابعًا لمعتقداته وعبدًا حقيقيًا لها، كالشيخ ومريديه، هذا الدين الذي تحدث عنه “جان جاك روسو” في عقيدة القس الجبلي والمعلم، مجمله “الإيمان في خدمة النفس، والدين في خدمة المجتمع، والمجتمع في خدمة الفرد”.

تطرق الكاتب إلى المقارنة بين ديانتين تعيشان في بلد واحد، لا يفصل بين كنيسة الأولى ومسجد الثانية إلا شارع عريض. حارس الكنيسة مسلم يقرأ القرآن ليل نهار، أما شيخ المسجد فيتوجس من زائره الجديد، وهو مسلم مثله، زائرات الكنيسة اللواتي أطلق عليهن مصطفى العامل في المسجد، لقب الفرنجة في طريقة لباسهن وعطورهن الفواحة، وزائرات المسجد هن خيام سوداء تتنقل بين أرجائه.

“عالمان متوازيان يحيا بينهما، لا يتقاطعان إلاّ حين تأتيه النهاية، فيكتشف ما فاته، ويعلم ما قد غفل عنه، وقتها يكشف سره مضطرًا أمام ضابط التحقيقات.. إنه السلفي الذي يكتب الروايات سرًا”.

مات (سين) تحت التعذيب، وترك زوجته وابنه الصغير، وترك روايته السرية التي لم تكتمل، ربما تكتمل يومًا، إذا أتيح للسلفي أن يكتب الروايات علنًا.


أنجيل الشاعر


المصدر
جيرون