شجون سورية.. محاولة لفهم واقع لا يُفهم



تنتقل الحالة السورية متعثرة بعيدًا عن الثورة التي يبدو، للوهلة الأولى، أنها دُفِنت حية، ولم يعد بالإمكان استعادة أي من فصولها المُلهِمة، التي استطاعت زحزحة بنيان أحدِ أكثر الأنظمة الاستبدادية رسوخًا في العصر الحديث، بل يمكن القول إن ذلك النظام يبدو الآن في أحسن حالاته وهو يعيد تجميع نفسه، بل تعاد تهيئته على نطاق عالمي، بحيث بات الحديث عن رحيله يقتصر على جماعات ثورية سورية دون غيرها، فيما نكاد نجزم أن أروقة السياسيين السوريين “المعارضين المتخبطين” لا تخلو جلساتها السرية من أحاديث جانبية، عن إمكانية بقاء ذلك النظام، على الأقل حتى تنتهي ولايته الرئاسية عام 2021، وبعدئذٍ يكون لكل حادث حديث.

رأس النظام -في آخر لقاءٍ إعلامي له- بدا واثقًا جدًا من قدرته على حسم الأمور، بل على استعادة سورية كاملة غير منقوصة، جغرافيًا طبعًا، أما بشريًا فذلك حديث كان قد حسمه في وقت سابق، حين تحدث عن سورية “متجانسة”، وفُسرت تلك العبارة على أنه كان يقصد سورية موالية له بالمطلق، وعلى الرغم مما تحمله عبارته من فاشية واصطفاء إلا أنها مرت مرور الكرام، شأنها شأن كثير من الأحداث والتفاصيل التي تعرضت لها سورية، خلال السنوات الماضية، فليس إفراغ مناطق بأكملها، ولا تهجير مجتمعات كاملة، خطًا أحمر على أي حال، بل إن هذا الأمر قد لا يعني الكثيرين، فيما سيحوله آخرون إلى فقرة ساخرة في برنامج تلفزيوني هزيل، وستُطوى صفحته، فيما على الأرض يتم تطبيقه عمليًا، آخره ما شهدناه من عمليات تهجير منظمة ومنهجية، طالت ساكني محافظتي الرقة ودير الزور اللتين ابتليتا، على مدى أكثر من ثلاث سنوات، بالاحتلال الداعشي، وآن أوان إفراغهما وتسليمهما من جديد لنظام دمشق، طبعًا في ظل غياب شبه كامل لأي قوى وطنية سورية، سواء أكانت عسكرية أم سياسية قادرة على ملء ذلك الفراغ الذي أحدثه، وسوف يحدثه، زوال تنظيم (داعش) من المشهد، ودون أن نلقي بأي اتهام يحمل شبهة التخوين والعمالة لـ (قوات سوريا الديمقراطية)، إلا أن المؤكدَ أنّ تلك القوات لا تعمل وفق أجندة الثورة السورية على الإطلاق، ولن يكون مأمولًا منها مستقبلًا أن تغير بوصلتها، وتقرر العمل وفق تلك الأجندة. وليس أدلّ على ذلك من قيام تلك القوات برفع صورة زعيم (حزب العمال الكردستاني) “التركي” عبد الله أوجلان، في إحدى ساحات مدينة الرقة السورية، احتفالًا بتحرير المدينة من تنظيم (داعش).

وسط هذه الفوضى غير المسبوقة ربما في المشهد السوري؛ لا يمكننا القول -والحال هذه- إن الوضع متدحرج، وإن مفاجأة من نوعٍ ما كفيلة بقلب الموازين رأسًا على عقب، بل إنه وضعٌ يتم طبخه حاليًا على نيران هادئة، ويتم التوافق على مراحله بين اللاعبين الكبار، الممثلين طبعًا بالولايات المتحدة الأميركية وروسيا، دون أن ننظر إلى إيران على أنها لاعب رئيس على الإطلاق، فعلى الرغم مما يظهر من قدرتها على الحركة والتمدد، ونشر ميليشياتها الطائفية حيث تشاء، إلا أن معادلة نفوذها لا تختلف كثيرًا عن معادلة نفوذ وتمدد تنظيم (داعش)، في وقت من الأوقات، فهي رهن بقرار يصدر عن هذا الطرف أو ذاك، لتنقلب عليها الطاولة، وتبدأ في لملمة خسائرها. ومؤخرًا، بدا الرئيس الأميركي دونالد ترامب جادًا في مسألة الضغط على طهران، وهدد بأنه قد يوجّه لليّ ذراعها، لكن كلام ترامب تقدر (سي آي إيه) على محوه، بمجرد طلوع النهار في الشرق الأوسط؛ لأن مهمة إيران لم تنتهِ بعد، بالنسبة إلى راسمي السياسة الجديدة في الشرق الأوسط، وعليه؛ فلا بأس بالسماح لطهران باللعب في مساحةٍ تم تحديدها سلفًا، والاتفاق عليها ما بين موسكو وواشنطن.

الأمر إذًا كله منوط بما تريده عاصمتا العقد والحل، في عودة سخيفة لما شهده العالم من تفاهمات، تحت الطاولة بينهما، إبان فترة الحرب الباردة أيام الاتحاد السوفيتي، طبعًا سيبدو مضحكًا بعض الشيء الحديثُ عن غياب الموقف العربي أو قدرة الدول العربية المعنية بالمسألة السورية على التدخل والحسم، فقد ضيّعت تلك الدول مجتمعة لحظاتٍ تاريخية مهمة جدًا، كان بوسعها أن تقدم أكثر من بذل الوعود والاكتفاء بالجعجعة الفارغة، في مؤتمرات صحفية لا تُغني ولا تُسمن.

لكن، في هذا الزحام شديد السوداوية، وانتظار نقطة نهاية يقررها اللاعبون الرئيسيون، ألا يحق لنا أن نتساءل، ولو من باب الإحاطة لا أكثر: أين ذهبت الثورة السورية؟

في الحقيقة، يبدو هذا السؤال هو الأكثر أهمية من كلّ ما تقدم، إذ لا يمكن الركون أبدًا إلى التعريفات التي صنعتها “الميديا” العالمية، بتوجيهٍ من حكومات بلادها، واعتبار أن ما يحدث في سورية حرب أهلية، فما حدَث وما يحدث هو ثورة، ما زال فيها رمق -وإن ظهر أنها ماتت ودُفنت- وما زالت قادرةً على رفع شعاراتها، ما إن يتوقف القصف والقتل والتدمير. هذه المعادلة -وإن تظاهر صانعو السياسة العالمية بأنهم لا يُدركونها- تعيدنا كلّ مرة إلى نقطة البداية. الثورة يمكن أن تنهض من جديد، ولم يحدث أن قرأنا في كتب التاريخ أنّ ثورةً ما انتهت، بقرار من واشنطن أو من موسكو.


ثائر الزعزوع


المصدر
جيرون