رهانات البرزاني ومصيرها



يقول كثير من المتابعين لما حصل لمسعود البرزاني (الاستفتاء وتبعاته)، إنه يشبه ما حصل لصدام حسين عند دخول الكويت، حين اعتقد أن ضوءًا أخضر أُعطي له، بعد مقابلته الشهيرة للسفيرة الأميركية (غلاسبي)، وقولها “إن أمرَ الكويت لا يهمهم”؛ ثم كانت العواصف، بدءًا من عاصفة الصحراء إلى احتلال العراق وتمزيقه.

رئيس إقليم كردستان الذي قرر إجراء الاستفتاء على استقلال الإقليم، وهو المخضرم سياسيًا، لا بدّ أنه استشار من يحسبهم حلفاءَ من أصحاب القرار، ولا سيّما الجانب الأميركي، واعتقدَ أن الأمر يمكن أن يمرّ، وسيكون أقل المكاسب استخدام النتائج ورقة للمساومة مع حكومة بغداد، كما روّج لذلك جميع الأكراد الذين نعرفهم، والذين كانوا يؤكدون على أن الاستفتاء لا يرمي إلى الاستقلال، بل إلى إجبار الحكومة المركزية في بغداد على فتح الملفات العالقة، وهي ثلاث:

1 – المفاوضات على مصير كركوك، وعدد من القرى المجاورة لها، والأبعد أيضًا.

2 – اعتبار (البيشمركة) جزءًا من الجيش العراقي، كما بات الحال مع (الحشد الشعبي).

3 – إيفاء الديون المترتبة على الحكومة المركزية، والتي تقدّر بنحو 12 مليار دولار.

بينما هناك من يؤكد أن الاستفتاء كان امتحان القوة، ولو أنه مرّ؛ لأعلن البرزاني استقلال الإقليم، محققًا بذلك آمال ملايين الأكراد.

لكن ردّة فعل الحكومة العراقية المدعومة من إيران جاءت مخالفًة للتوقعات والتكتيكات، وبدلًا من فتح حوار، أو مفاوضات مع الإقليم؛ كان التدخل المباشر الكثيف والعنيف الذي رتّب نتائج بالغة الأثر تطيح بتلك الخطوة، وتضع الإقليم وحكومته، ورئاسته في قلب عاصفة قد تكون لها تداعيات كبيرة.

لقد سيطرت الحكومة المركزية على كركوك، وطردت قوات (البيشمركة) منها، وأعضاء المجلس المحلي من الأكراد الذي كان يسيطر ويرفع العلم الكردي على مبنى المحافظة. وتؤكد الأطراف الكردية على حصول عمليات تهجير واسعة للأكراد من المنطقة، بينما يشير البعض إلى تواطؤات واتفاقات مع الجناح الكردي الآخر المنافس للبرزاني، بقيادة بافل، ابن الراحل جلال طالباني، والذي يجدد التنافس والنزاع التاريخي بين الجناحين وعشائرهما، و”حزبيهما”، وعاصمتيهما في أربيل والسليمانية. ويقال أيضًا إن (بافل) أبرم اتفاقات شاملة مع هادي العامري، قائد الحشد الشعبي، حول مصير كركوك، وحتى إقليم كردستان، وإن مسعود البرزاني يشعر بإحكام طوق كبير، متعدد الأنواع حول عنقه، يتجاوز الداخلي إلى الإقليمي، والدولي.

يسترجع عموم الأكراد اليوم ذكريات قيام تلك الجمهورية اليتيمة في تاريخهم، بدعم سوفيتي، جمهورية (مهاباد) التي لم تعمّر طويلًا (قرابة العام) بفعل “تآمر” الدول عليها، وهي الدولة الوحيدة التي قامت للأكراد في العصر الحديث، وعيونهم تنظر بخوف كبير على ما يشبه حالة الاستقلال التي يعيشون فيها داخل الإقليم، قبيل وبعد احتلال العراق، وبعضهم يستذكر الرئيس صدام حسين وعام 1971 حين تقدّم النظام العراقي بـ “الحكم الذاتي” لكردستان العراق، والذي اعتبر تطورًا نوعيًا في الإقرار بالوضع الكردي، يعترف بالإقليم، ويمنحه صلاحيات واسعة ويكرّس اسم كردستان العراق وحدودها بشكل واضح، وإن ظلت كركوك مثار تنازع، وكذلك لجوء مسعود برزاني إلى الحكومة العراقية وطلبها تدخل الجيش العراقي لمساندته ضد قوات الطالباني وحلفائه، بخاصة إيران في 31 آب/ أغسطس 1996 بعد أن كاد يسقط.

قصة كردستان والدور الدولي والإقليمي طويلة ومعقدة، وقد قامت الدول الأجنبية بالتلاعب بالوضع الكردي في مسافة تاريخية متعرجة الأطوار، انتهت بتقسيم كردستان في مؤتمر لوزان 1923، من دون أن يكون للعرب أي دور أو مسؤولية.

لم تجد المسألة الكردية حلولًا تُرضي أغلبية الشعب الكردي، ولهذا فإن أسباب الصراع ظلّت قائمة، وإن عرفت أنواعًا من التماوجات، وكان العراق أكثرها بروزًا واقتتالًا وبلورات لأسباب متعددة، وتركيا أيضًا، بينما جبهة كردستان إيران كانت شبه صامتة. لا شكّ أن للعامل الخارجي، وما حدث للعراق بعد الاحتلال، دورَه الملحوظ والطاغي في بعض الحالات.

تدخل اليوم كردستان العراق طورًا آخر، فقد ظهر أن جميع الدول، بخاصة تلك التي كانت تبدي أنواعًا من التأييد والتعاطف، تقف ضد إجراءات رئيس الإقليم في استفتاء الاستقلال، بما يلزمه على التراجع الذي يبدو حتى هذه اللحظة أنه بعد فوات الأوان، وقد أعلن البرزاني استعداده لتجميد نتائج الاستفتاء، ولم يستجب أحد لدعوته، لأن التطورات تجاوزت ذلك.

كما تُظهر الوقائع أنّ من غير المسموح للأكراد إقامة دولة مستقلة، وأن مبالغات البعض، أو منسوب تفاؤلهم، تصطدم بالواقع العنيد لإرادة الأطراف الإقليمية والدولية، وأن تلك الحسابات الخاطئة، أو الرهانات على استخدام الاستفتاء ورقة للمساومة، قد ترتدّ على الإقليم بشكل عام، وعلى موقع رئيس الإقليم ومستقبله بشكل خاص. كما أن تطرّف مطالب بعض الجهات الكردية بخصوص الشأن السوري وبعض الدعوات بالاستقلال والانفصال، أو التمدد في المساحة الجغرافية لما يسمى (كردستان سورية الغربية)، لا بدّ أن يعرف نوعًا من العقلنة، والتراجع، والتأكيد على أن سورية هي الانتماء، والوطن الموحّد لجميع السوريين، أيًّا كانت أصولهم الإثنية، واتجاهاتهم السياسية.

تبقى هناك حقيقة أساسية، تخالف ما يُقال عن الحتميات التاريخية الخاصة بالشعوب وإرادتها، وهي أن العامل الخارجي يمكن أن يسحق تلك الإرادة، ويلغيها.. والحالة الكردية، وأوضاع عربية متعددة خير مثال.


عقاب يحيى


المصدر
جيرون