“سياسة” إفقار المناطق الخارجة عن سيطرة النظام



تزداد حدة الأزمة التي يمرّ بها الاقتصاد السوري، نتيجة عملية تدمير منهجية، عمل النظام على ترسيخها في المجتمع السوري، ووصلت إلى حد إفقار معظم المناطق التي خرجت عن سيطرته، فلم تكن سياسة الحصار وتدمير تلك المناطق نتيجة لعمليات عسكرية، تقع ضمن “خطأ” المساس بالاقتصاد، ضمن هوامش الخيارات المتاحة، بل كانت في صلب عملية تهدف إلى إرجاع السوريين على “الحديدة” التي اكتست من جيب النظام، على ما تقول ثقافة اقتصاده، وخططه التي منّت على السوريين بـ “رغد العيش”، في عقود حكم الأسدَين، الثقافة التي رسّخت فكرة أن كل ازدهار أو انتعاش نعِمَ به السوريون يعود فضله لهِبات “القائد الخالد”، وطمست كفاح السوريين وكدهم في مختلف نواحي الحياة.

كان مسعى الحياة الاقتصادية للسوري يعبّر عن بؤس الواقع السياسي والاقتصادي والمجتمعي، الذي تحول في حقبة الأسد إلى مجتمع اقتصادي متوحش، وصلت الذروة فيه إلى انفجار الثورة التي لا يمكن فصل واحدٍ من أسبابها عن موضوع السيطرة والاستحواذ الذي عمل النظام على تربية شريحته الأمنية والاقتصادية، من خلال الاستثمار في العطاءات والولاءات؛ وبالتالي خلق اقتصاد مترنح تحت وطأة الفساد الهائل.

ركزت سياسة النظام السوري، منذ بداية الثورة، على تفتيت أسس اقتصاد السوريين، لم يكن عبثًا حرق محاصيل الفلاحين، ولا جرفها بالدبابات، أو استهداف المنشآت الاقتصادية والتعليمية والصحية، حتى استهداف المواشي والحيوانات، وتدمير كل ما يشير إلى استمرار الحياة أو عودتها عن طريق ما اصطلح عليه “تعفيش” حياة السوريين: أي إعادتها إلى العدم، من خلال حرق البيوت وتدميرها، وتصويرها وبث أفلامها. كل تلك الممارسات كانت ترمي إلى تضييق شروط حياة السوريين فوق أرضهم وممتلكاتهم، وتبعًا لبعض الإحصاءات المحلية والدولية، فإن نحو ثلث المنشآت السكنية قد دُمّر بالكامل، ونحو 20 بالمئة من الأبنية قد دمّر جزئيًا، أي بواقع ثلثي المساكن، فضلًا عن تدمير أكثر من نصف المنشآت الطبية والتعليمية.

على الرغم من قلة المعلومات المتوفرة عن حدود الضرر الذي تعرض له اقتصاد النظام، فإن وفرتها عن الأضرار التي لحقت بالمجتمع السوري تشكّلُ حالة من الذهول والصدمة المخيفة، توفر بدورها إمكانية رسم صورة دقيقة وشاملة للخسائر الناجمة عن استهداف المنشآت والبنية التحتية، لأرياف معظم المدن والقرى السورية، وإضافة إلى الدراسات التي تفيد بفاتورة الحرب الضخمة المقدرة بـ 350 مليار دولار، فإن الخسائر الأخرى المتعلقة بارتفاع نسبة البطالة وانهيار القيمة الشرائية لليرة السورية، مع النزيف الحاد للقوة البشرية بفعل عمليات التهجير والتطهير العرقي، ترسم الصورة القاتمة لمستقبل الاقتصاد السوري.

تصريحات مسؤولي النظام التي تقلل من حدة هذه الخسائر تعود بالطبع إلى دوافع سياسية، والتباهي بدول مثل الصين وإيران وموسكو، بأن في نيتها أن تفتح دولًا على حسابها لإنعاش اقتصاد النظام، فهذا بعيد عن واقع الدَّين الذي يرزح تحته اقتصاد النظام، فالديون الخارجية للنظام السوري -بحسب صندوق النقد الدولي- تمثل 60 بالمئة من حجم الاقتصاد، تتصدرها إيران بواقع 35 مليار دولار ديون توريد سلاح وعتاد، تليها ديون موسكو على النظام بواقع 14 مليار دولار، تشمل كلفة عمليات العدوان على الشعب السوري وتوريد بعض السلع الغذائية.

في مقابل ذلك، منح النظامُ موسكو وطهران كلتيهما، عقودًا ضخمة طويلة الأجل، في مجال استثمار الطاقة، وتسهيلات بإقامة قواعد عسكرية بهدف استرداد الديون، بينما هي في الحقيقة تزيد من الضغوط على الاقتصاد السوري مع جملة الضغوط والخسائر الأخرى. فبينما يمتدح اقتصاديو النظام ما توصل إليه من اتفاقات مع كلتا الدولتين، تظهر بوضوح ملامح إذابة السوريين في البنية الاجتماعية والاقتصادية التي تطمح موسكو وطهران إلى الاستثمار بهما في سورية، بمعنى أن يجد البعض مصلحته في القبول بتسوية مع النظام، مقابل وعود “الخرافة” الاقتصادية لإعادة الإعمار برعاية الأسد.

تمثل سياسة النظام التدميرية لحياة السوريين الاقتصادية النهجَ الموازي لسياسته القمعية بالبطش الوحشي للمجتمع السوري، ونموذجًا “فعالًا” إزاء الثورة لقمعها؛ فقد ترك تهجير ملايين السوريين وتدمير مقدراتهم، آثارًا كارثية على قطاع الزراعة والصحة والصناعة والتعليم، فضلًا عن الشرخ الهائل الذي أصاب النسيج المجتمعي، من جرّاء سياسة تفتيت اقتصاد المناطق الثائرة وتدميره، وأدت تلك السياسة إلى تحوّل ملايين السوريين إلى سلّم الجائعين والمنتظرين حصولهم على مساعدات عاجلة داخل سورية، حسب تقديرات المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي ديفيد بيزلي.

أخيرًا، إذا كان المجال الاقتصادي للنظام يمثل حجر الزاوية لتحالفاته مع موسكو وطهران، وبالتالي دعم بقاء النظام للحفاظ على مصالح تقوم عليها هذه العلاقة؛ فإن التغيير البنيوي الذي أحدثه إجرامُ النظام وحلفائه باقتصاد سورية، لن يقزم مطالب السوريين العادلة التي تشمل كنس النظام وزمرته التي استحوذت أساسًا على مقدرات سورية، طوال خمسة عقود، فكيف سيكون المستقبل الاقتصادي لسورية بعد أن حكَمه لصوص ومجرمون وقتلة؟


جيرون


المصدر
جيرون