ثمن الحرية
2 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2017
يقول في مُحْكَمِ مقاله بوصفه رئيسًا للتحرير:
“الدّولة السوريّة رَبِحت الحَرب استراتيجيًّا، والرئيس بشار الأسد باتَ مُتربّعًا بكُل ثِقَة على قمّتها، ولم يَعد أحد يَجرؤ على مُطالبته بالرّحيل، والجيش السوري الذي قادَ معركة الصّمود لما يقرب من السّبع سنوات، يُشكّل طوق الحماية لهذهِ الدّولة وقيادتها وشَعبها.. كل هذه الحقائق التي تَفرض نفسها على الأرض بقوّة…”. ويكتب أحد كتبته: “.. عائلة كعائلة الأسد في سورية لم تحكم.. فرْدٌ من أفرادها، كأي فرْدٍ من العائلات السورية، صَعَدَ في المناصب الوظيفية حتى موقع الرئاسة. فكان الرئيس الراحل حافظ الأسد، واتفق، بموجب الدستور، والنظام السياسي المعمول بهما على اختيار الدكتور بشار الأسد رئيسًا”.
حين تقودك الصدفة المحضة إلى أن تقرأ في الصحيفة الإلكترونية ذاتها، مثل هذا اليقين الأعمى في النص الأول، لكن البهلواني أيضًا، في قدرته على القفز فوق كل ما يراه الجميع من حوائل دون الوصول إلى مثل هذه “الحقيقة التي تفرض نفسها”، ومثل هذا التوصيف الأحمق حدَّ السذاجة المرضية في النص الثاني؛ لا بد لك من أن تقرّ بأن العمى ليس بالضرورة آفة طبيعية، ولا البهلوانية أيضًا موهبة فطرية، ومثلهما الحماقة والسذاجة. بل هما، العمى والبهلوانية، أو الحماقة والسذاجة، قدرات مكتسبة تحولت اليوم إلى بعض من أسلحة مماثلة عديدة، ولا سيما منها التخلي عما اختزنته الذاكرة من أحداث ماض قريب، باتت جميعها تستخدم اليوم بكثافة غير مسبوقة، لا لإعادة رسم مشهد قائم أصلًا ومتاح أمام كل ذي عينين سليمتين، بل لتحديد طريقة قراءته في مجمله وفي تفاصيله، بعد حذف الكثير من هذه الأخيرة، أي فرض كيفية رؤيته في النهاية، بعد تغيير كثير من الخطوط والألوان.
سبع سنوات على خروج الجماهير العربية من مغرب العالم العربي حتى مشرقه تطالب بالحرية والكرامة، وبإسقاط نظم الاستبداد والفساد والاحتكار، وبإلغاء مشروعات تحويل ما كان جمهوريات مفترضة إلى جمهوريات وراثية، كانت، أيضًا، سبع سنوات من عمل حثيث من أجل إقناع هذه الجماهير بأن عليها أن تفهم خطأها، وأن تدرك أن استخدامها، هي ومطالبها، جعلها على “غير وعي منها وبغير إرادتها” ألعوبة في أيدٍ شريرة.
لقد جرت محاولات الإقناع هذه بوسائل تختلف من بلد إلى آخر على مساحة العالم العربي، تارة بتبني أهداف الثورة في هذا البلد والعمل على تفريغها بوسائل ديمقراطية، أو بالانقلاب على الشرعية واصطناع شرعية جديدة، قوامها حركة الجماهير أو غضبها وتوظيفهما من أجل تحقيق غايات لم تكن تلك التي خرجت من أجلها.. لكن ما كان أكثرها عنفًا وتدميرًا تلك التي جرت -وما زالت تجري- مُقَدِّمَة في سورية نموذجًا لا مثيل له في الكذب والخداع والنفاق وتشويه الحقائق، فضلًا عن التدمير الممنهج ومحاولة إعادة تكييف البلد شعبًا ومناطق وجغرافيا، بما يلائم ويتناسب مع تطلعات ومطامح القوى التي وقفت تدعم النظام الحاكم الاستبدادي بكل قواها: روسيا وإيران.
هكذا استحال المشهد في العالم العربي -وهو المشهد الذي تعمى عن رؤيته، على حقيقته، أبصار وبصائر أمثال مَنْ كتب ذلك النص المذكور في بداية المقال- مشهدَ تاريخ سيزيفيّ العبث بكل معنى الكلمة: فبعد عقود من النضال للتحرر من الاستعمار، ومن قواعده العسكرية في العالم العربي ومحاولات بناء الدولة الوطنية المتحررة من جديد، ها هي القواعد العسكرية تعود وتتكاثر في معظم البلدان العربية، قواعد مختلفة في جنسية دولها وفي حجمها وفي وأهدافها؛ وبعد سبعين سنة من رفض “إسرائيل” غرسًا استيطانيًا وعدوانيًّا في قلب العالم العربي؛ ها هي المشروعات السياسية والاقتصادية الكبرى التي يجري إعدادها بالشراكة معها بينما يجري فتح أبواب البلدان العربية لها واحدًا بعد الآخر؛ وبعد أن أزيحت مطالب الحرية والكرامة والديمقراطية والسيادة من هذا المشهد نهائيًّا؛ صار الإرهاب بوجوهه المختلفة يحتل مقدمته، وبات القضاء عليه حجة الجميع في حربه ضد الجميع.
على أن ما يجري في سورية التي ربحت الدولة فيها “الحرب استراتيجيًا”، وتربع “الأسد على قمتها بكل ثقة”، هو أشد وأنكى. فكيف يمكن لعاقل أن ينكر اليوم أنَّ هذه الدولة “التي ربحت” محتلةٌ أرضًا وقرارًا وسياسة على الصعيد الدولي والإقليمي والمحلي، من قِبل روسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا، وكذلك من قبل الميليشيات الطائفية القادمة من لبنان والعراق؛ ومن يسعه أن ينكر أنه لولا وجود روسيا العسكري المباشر والدبلوماسي الداعم منذ البداية بوجه خاص، وتواطؤ الدول “الصديقة لشعب سورية”؛ لما “ربحت الدولة السورية”، ولكان بشار الأسد ماثلًا اليوم أمام محكمة العدل الدولية، يجيب عن فظائع جرائمه؟
من المؤكد أن ما يطمئن كتبة مثل هذه الترهات أن دولة قوية كروسيا تبدو الآن ممسكة بخيوط المسألة السورية كلها، بعد أن أتاحت لميليشيات النظام الأسدي وحلفائه تحت حماية ودعم قواتها الجوية التقدم على الأرض، وانتهاز كل الفرص كي تضع صيغتها في الحل السياسي موضع التنفيذ. لم يعد الحل السياسي أمميًا إلا في التصريحات الصحفية، بما فيها تصريحات القادة الروس، بل صار حلًا روسيًا يقوم في جوهره على إعادة تأهيل النظام الأسدي، تحت مسمى “الدولة السورية”؛ وقد أمكن للمناورات السياسية الروسية أن تقنع الجميع بالتخلي عن شرط استبعاد الأسد، في مناقشة أي صيغة للحل بوصفه شرطًا مسبقًا، ولا تزال تعمل على ما يكفل القيام بإعادة النظر في جوهر النظام السياسي السوري، من خلال صوغ دستور يستجيب لمفهومها الذي ظهر واضحًا، عند حديث رئيسها عن الكونفدرالية، وعن “الشعوب” السورية، وعن مؤتمرها الذي تدعو له، أي ببساطة تطبيق خطة تعكس رؤيتها، وتنتهي بمرحلة تختتمُ بانتخابات رئاسية تجري في عام 2021، أي عام انتهاء “ولاية” رأس النظام الحالية، كي يخرج برضى الجميع كما تأمل، مرفوع الرأس!
ومن المؤكد أيضًا، أن ما يحمل هؤلاء الكتبة على الكتابة بيقين مطلق، ما يظنون اكتشافه اليوم، عبر تصريحات أو سرديات بعض المسؤولين العرب، السابقين منهم والحاليين، عن مجريات الأمور في سورية في سنوات الثورة الأولى. إذ تتيح لهم أن يستريحوا إلى اليقين بما يظنون أنهم “سبق أن رأوه وفضحوه”، وأن يستكينوا مرة أخرى إلى قناعات موروثة من خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت روسيا هي “الاتحاد السوفيتي، صديق الشعوب”، فيهرعون فرحين إلى إعلان إعجابهم بـ “دهاء الرئيس بوتين، ومُسارعته لنُصرة حُلفائه، وتضحيته بالكثير من قياداته وجُنوده في ميادين القِتال، وتشكيله التّحالفات السياسيّة والعَسكريّة القويّة الفاعلة”، وكيف أنه صار بفعل ذلك “هو الحاكم الفِعلي وعن جَدارةٍ لـ “الشرق الأوسط الجديد” الذي صاغه على أنقاض الولايات المتحدة الأميركيّة ونُفوذها، الذي استمرّ دون مُنازعٍ لأكثر من أربعين عامًا، مِثلما باتَ هو صانع القرار، ولكن بالتّشاور مع حُلفائه الذين وثَقوا بِه ووثِق بِهم”. هكذا لا يُلغى من الحساب وجود الشعب السوري، ولا مئات الألوف من قتلاه، ولا ملايين السوريين المهاجرين والمبعثرين في أرجاء الأرض كلها، بل كذلك يُلغى الغرب بأكمله، بما فيه الولايات المتحدة الأميركية. وعلينا أن نصدق، كما صدّق هو، أو هم، هذه الترهات.
هكذا يتجلى ثمن الحرية التي خرج الشعب السوري يطالب بها ولا يزال: فيما وراء القتل والتهجير والتدمير، عليه أن يتلقى ويجفف أنهارًا من النفاق والكذب والهراء والسذاجة في فكر وعلى ألسنة من كان يُفترض أو يُظن أنهم الضمير الناطق بالحق، فإذا بهم ينطقون بما هو أشد كذبًا ونفاقًا.
من كان يُظنُّ بأنهم.. غير أن بعض الظنِّ إثمٌ، فعلًا.
بدر الدين عرودكي
[sociallocker]
جيرون