“مطر حمص” تشويش المشهد وطمس الحقيقية



في الوقت الذي يُستبعد فيه اسم جود سعيد من المهرجانات الأوروبية، مؤسسة (أفلام) الفرنسية نموذجًا؛ تُفتح له أبواب المهرجانات العربية، لا سيما مهرجان قرطاج السينمائي، ليشارك في فيلمه (مطر حمص) الذي صُوّر على أنقاض مدينة حمص المدمّرة ببراميل النظام! فيلم لم يرَ مشهد الدم والدمار الذي خلفه نظام الاستبداد في حمص العدية؛ فانحاز إلى القتل، حين أعلن كتابة الفيلم وإخراجه وتصويره على أنقاض مدينةٍ وناس ودماء ومهجرين ومشردين، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما التي ليست أكثر من مؤسسة أمنية ترعى شبيحة السينما، لينتجوا أفلام البروباغندا والتزوير!

يحوّل النظام -من خلال مؤسساته- حمصَ إلى أستديوهات تصوير، بأمر من المؤسسة العامة للسينما، ويأتي دورها بعد أن قامت المؤسسة الأمنية باعتقال وقتل الشباب السوري، ثم دفع المؤسسة العسكرية، لتهدم بيوت الناس وتهجرهم من حمص ومدن أخرى، يأتي دور المؤسسة السينمائية بمخرجيها، لتصور هذا الخراب؛ فتسوّق النظام وتبرر له القتل، تحت شعار مقاومة الإرهاب. وكأننا دخلنا في رواية لساراماغو، حين أصيب جميع سكان المدينة بالعماء! فهل وصلنا حقًا إلى انهيار شامل للقيم الثقافية والأخلاقية؟

هذا التساؤل فرضه عليّ ما كتبه المخرج السينمائي الشاب زياد كلثوم، على صفحته في (فيسبوك)، حيث قال: “يستنكر بعض التوانسة العاملين في مهرجان قرطاج السينمائي احتجاجنا ورفضنا لمشاركة فيلم (مطر حمص)، في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، كونه يبيض صفحة النظام الذي دمّر مدينة حمص وشرّد أهلها، قائلين إن الشاشة السينمائية التونسية لمهرجان قرطاج لا تميز بين فيلم مؤيد للنظام أو معارض له، ونقول للمهرجان الذي طالما وثقنا به وأحببناه وافتخرنا به عربيًا: إنكم حين تستضيفون فيلمًا من طراز (مطر حمص)؛ تهينون الثورة التونسية التي خرجت ضد طغيان “بن علي”، والتي خرجت من أجل كرامة الإنسان التونسي، قبل أن تهينوا الإنسان السوري الذي قتل وشرد على يد النظام”.

ما نراه من أحاديث جانبية هنا وهناك، وبخاصة على هوامش المهرجانات السينمائية التي باتت منصة حقيقية لترويج أفلام القتل والاستبداد، بحجة مقاومة الإرهاب، وأن تختلط الأمور بل أن تستبعد الكثير من الأفلام التي انحازت للأرض والإنسان وفكرة الحرية والكرامة، إنما هو الحضيض الأخلاقي الذي وصلنا إليه!

هنا، أشير إلى أن مؤسسة (أفلام) الفرنسية عمدت سابقًا، إلى سحب دعوتها لجود سعيد -ابن المؤسسة السينمائية الأمنية- للمشاركة بتظاهرة “أوجه السينما العربيّة الجديدة”؛ بسبب مواقفه المروّجة للنظام. وكانت تلك الدورة مهداة للسينمائي الراحل عمر أميرلاي، وجاء سحب الدعوة، وفق الرسالة التي وجّهتها المؤسسة إلى جود، ومفادها “بسبب انحيازك ومواقفك؛ قررنا أن نلغي مشاركة فيلمك في تظاهرتنا”.

هل نعيش حقًا لحظة انهيار ثقافي شامل، انهيار أخلاقي للقيم التي قامت من أجلها ثورات الربيع العربي التي رفعت شعارات الحرية والحق والعدالة. هذه واجبات أخلاقية ووجودية لا بدّ أن تقف في وجه كل أشكال الاستبداد، هل نعيش انهيارًا ثقافيًا لم يسبق أن عاشته المنطقة العربية بهذه الصورة المذلة؟

سؤال، وربما أسئلة كثيرة، ترتبط بالفن والسينما: هل نعيش فعلًا في عالم ليس لنا؟

هذا المهرجان الذي شكّل يومًا منصة لأهم الأفلام، كيف يتحول ويكون مساحة لترويج أفلام معاكسة لأهدافه، أفلام تمحو الذاكرة وتزيف التاريخ.

لا شك أن موقفًا أخلاقيًا يُحسب، حين تُمنع أفلام تروّج نظامَ القتل على أنه حامي الحمى، وفي هذه الحال يكون أي فيلم صوّر بكاميرا موبايل، يدين مشهد القتل، أهم من كل الإمكانات التي توضع لشبيحة السينما المنحازة ضمنًا للقتل والطائفية. نعرف أن هناك (داعش) و(النصرة)، الذين قدموا إلى المدن كثورة مضادة، وندرك على طرف آخر مصدر الإرهاب الذي أباد المدن.

فلو سجّل صاحب (مطر حمص)، موقفًا يشير إلى إرهاب وفداحة ما يقوم به النظام، إلى جانب المجموعات الإرهابية الأخرى؛ لاختلفت المعادلة تمامًا.


فاتن حمودي


المصدر
جيرون