من يُشكّل وعينا كسوريين؟



إن التأمل في بعض “المحرمات” التي كانت تحكم وعينا، خلال فترة الاستبداد، يطرح على الذات والفكر أسئلةً كثيرةً، أسئلة تنطلق من قدرة الاستبداد على تحديد المحرمات الممنوع الاقتراب منها، عن تلك التي يسمح بالحديث بها، بل يشجعها ويعمل ساعيًا لترويجها وجعلها جزءًا من “الوعي العام” لمحكوميه؛ وصولًا إلى قدرة الاستبداد على “صناعة” وعينا والتحكم به، حتى ونحن نظن أننا نقارعه ونناضل ضده.

إن التأمل في الصمت عن المسألة الطائفية التي لم تدخل حيّز التفكير إلى الفكر العربي (والسوري منه) إلا مؤخرًا، وأيضًا التأمل في مقولات مثل “الجيش خط أحمر” و”وحدة البلاد”، و”المسألة الكردية”، ولا سيّما بخصوص مسألتي تقرير المصير والانفصال، فضلًا عن مسألة الإسلام السياسي وحق تشكيل أحزاب دينية من عدمه.

إذا كانت المسألة الطائفية لم تدخل حيّز التفكير والاهتمام، بفعل “تواطؤٍ” ما من الطرفين (النظام ومعارضيه)، باعتبار أن الجذر المؤسس لوعيهما معًا هو واحد، أي ذاك الوعي الذي يعدّ الطائفية من مخلفات الاستعمار والرجعية؛ فإن مسألة عدم التعرض للجيش بالنقد آنذاك، بالرغم من معرفة الجميع بانتشار الفساد فيه بشكل واسع ومعمم، وأيضًا الإمساك به طائفيًا وتوزيع القوى طائفيًا، تطرح السؤال: لمَ كنّا صامتين عن ذلك، ولِمَ لم يتعامل نقدنا من موقع المعارضة مع الأمر بشكل جذري وحاد، بما يوجه الأنظار نحو هذا الفساد، وهو الأمر الذي دفعنا ثمنه فادحًا خلال الثورة؛ إذ كان أول شعاراتنا يقول “الشعب والجيش إيد واحدة”، توهمًا منا بإمكانية تحييد الجيش!

أيضًا، إن كل مقولاتنا عن المسألة الكردية في ظل الاستبداد لم تتعد القول بالحقوق الثقافية والمدنية للأكراد، وذلك على الرغم من أن تجربة الحكم الذاتي للأكراد في العراق كانت تقول الكثير، وبالتالي تطرح على الفكر مسائل التفكير أبعد مما كان وعينا يفكر به؟

المسألة الأكثر إثارة للنقد هنا هي مسألة التعامل مع الإسلاميين، وهي مسألة سورية بقدر ما هي عربية، حيث نجحت أنظمة الاستبداد في منطقتنا العربية في شيطنة الإسلام السياسي، إذ نجح النظام في تحريم الحديث عن مسألة الثمانينيات، ونجح في جرّ المعارضة إلى الاستخدام السياسوي للأمر بعيدًا عن أي نظرة نقدية متفحصة، تعطي لقيصر ما لقيصر وللإسلاميين ما عليهم وضدهم. هنا ساهم الإسلاميون، بقصر نظرهم، في تسهيل نظرة النظام بشيطنتهم، وذلك عبر عدم قدرتهم على التطور، وطرح قضيتهم ضمن المسألة الوطنية سورية، إذ بقيت قضيتهم مرهونة بين العالم الإسلامي ككل، والثأرية والغباء السياسي الذي تجلى في وثائق عدة صدرت قبل الثورة، ووصل بهم الأمر إلى حدّ التحالف مع جزاريهم السابقين: رفعت الأسد وعبد الحليم خدام، فيما عرف آنذاك بـ “جبهة الخلاص الوطني”، ثم جاءت سياساتهم خلال الثورة لتقضي على أي أملٍ لهم، بخاصة بعد ظهور معسكر إقليمي عمل، ولا زال، على منع وصول الإسلاميين إلى السلطة.

إن تأمل ما سبق، من جهة سؤالنا الأساس عن قدرة الاستبداد على التحكم بوعينا بطريقة أو بأخرى، يجعلنا أمام عاملين: الأول يتعلق بعجز المعارضة ومحدودية وعيها وسياساتها الخاطئة، وهذا ليس مثار بحثنا هنا. والثاني هو موضوعي، يتعلق بأن النظام أحكَمَ -وهذه مهمة كل نظام دكتاتوري- الهيمنةَ على فضاء الرأي العام، وعمل على توجيهه، بما جعل كل من يقطن ضمن هذا المجال العام عرضةً للتأثر بما يريده النظام، إذ مهما امتلك الفرد من قدرات أو وعي؛ فإنه يبقى محكومًا بطريقة أو بأخرى بهذا الفضاء الذي يحيا به، وتبقى قدرته كفرد على اختراقه محدودة بحدود معينة، لأن النظام الذي احترف الرقابة، ومنع الكتب، وراقب الإنترنت، وحرّم النقاش، ورفع عصا الاعتقال فوق كل من تسوّل له نفسه التمرد، تمكن من خلق المجال الذي يريد لمحكوميه التحرّك ضمنه.

ولكن هنا، لا بد من الانتباه إلى مسألة أخرى، تتعلق بما هو خارج هذا الفضاء الذي يحكمه  الاستبداد، ونعني الفضاء الإقليمي والدولي، إذ لولا تواطؤ هذين الحقلين مع النظام؛ لما كان بإمكان الأخير خلق هذا الوعي المشوّه أو الناقص عن الوعي به، الأمر الذي يجعل سؤالنا السابق موسعًا، ليشمل فضاء الإقليم والعالم، فإلى أي حدٍّ يمكن لوعينا عن العالم وما يحصل فيه أن يكون صائبًا، في ظل وجود أجهزة إعلام وأنظمة مخابرات محلية وإقليمية ودولية، تعمل جهدها على ترويج الأكاذيب والسحر في العالم، ومَن الذي يستطيع أن يقول لنا بدقة اليوم أين تبدأ حقيقة (داعش) وأين تنتهي؟ وما هو دور القوى الدولية والإقليمية في توليدها ورعايتها، بخاصة أن النتائج على الأرض تقول الكثير، حيث حققت هذه القوى كل ما تريد على ظهر (داعش)، بدءًا من الدول الإقليمية التي أرادت تخريب الثورات خوفًا من تمددها إلى بلدانها، إلى الدول الكبرى التي أصبحت قواتها موجودة على الأراضي السورية والعراقية والليبية.. في عودة إلى مقولات الاستعمار والانتداب، على نحو فج ووقح؟


محمد ديبو


المصدر
جيرون