on
التلاشي الإنساني على حواف البرونز
بأسلاك رفيعة، تشكل شادية دعبول منحوتاتها، وتعيد تشذيبها على إيقاعات حسية، بعد أن تسكب عليها الشمع، لتغدو الفراغات التي تكونت في عمق الكتل مقصودة، فيُظهر الفراغ معنى الكتلة وحدودها. لا تتوقف شادية هنا؛ إذ تترك البرونز المنصهر ينساب على أعمالها، ليأخذ العمل شكله النهائي، إنها لمغامرة جديدة في النحت السوري.
المتأمل في الأعمال لا يلتقط الفراغات كمدلول فني فحسب، بل يذهب إلى التقاط التلاشي الإنساني، كعنوان يندرج تحته أغلب موضوعاتها، حيث المنحوتة ملتصقة بكتلة أخرى تضمحل بشكل تدريجي.
ما هذا التلاشي الذي يوحي به البرونز؟ إنه حالة الغيابات المتتالية التي يعيشها السوريون، فما من عائلةٍ إلا وغاب أحد أفرادها إما موتًا أو سفرًا أو فقدًا في المجهول. كحال الفنانة نفسها التي بقيت مع أدواتها في قبوٍ تركه لها أحد الأصدقاء، بعد أن غادره الجميع.
تستوقفنا المنحوتات وتصيبنا بالانخطاف أحيانًا، لأن ملح الواقع السوري حاضر فيها، وهي ليست من النوع الذي يجعلك تتأملها فحسب، بل تجعلك تفكِّر، وتتذكر مآسيك ومآسي الآخرين.
الفنيّة هنا لا تأتي من الموضوع فحسب، بل من التنويع الذي يضفي على المنحوتات حيوية ومعنى يسندها، وبالتالي يظهر وكأن الكتل تتكلم كلمات بحاجة إلى من يسمعها. بهذه الحالة لم يعد تصنيف العمل الفني ضروريًا، بقدر تأثيره وانتقاله إلى سؤاله البارز حول الغياب والتلاشي والفقد.
من جانب آخر، يأتي “التجذر” -كفعل معاش- بيّنًا في الأعمال، حيث قاعدة المنحوتة مندمجة مع الكتلة، وكأنها كتلة واحدة، بالرغم من فروق في نوعية المادة “خشب – برونز”، أما الاستلهام الحاصل بين “التلاشي والتجذر”، فهو يأخذ الباصر إلى هناك، حيث الحرب المفتوحة على الهواء.
(الرفاق الثلاثة) يتناقصون تدريجيًا الواحد تلو الآخر، إنها منحوتة كثيفة الترميز والوضوح، ويعيدنا ذلك إلى التداخل بين العمل الفني والواقع المعاش، وذلك ما تسمو به أغلب أعمال دعبول، فالناظر لا يشعر بهوة بينه وبين الكائنات البرونزية، ولعله يرجع ذلك إلى البساطة التي تتمتع بها أعمال دعبول. بإعادة التأمل في منحوتة “الرفاق الثلاثة”؛ تبدو شحنة الانفعال والمشاعر وثيقة مع إيحاءات العمل، حيث الرغبة حاضرة في رفض الغياب، والخوف من أن يتكرر هذا الغياب، مع من تبقوا في البلاد.
تهرب صاحبة (الرفاق الثلاثة) من ظلال الواقع في القسم الثاني من أعمالها، إلى عالم الموسيقا الراقصة، بعد أن تغلق نوافذ مرسمها، وتبقى وحيدة مع أسلاكها وشموعها، وصوت الموسيقا النابع من “اللاب توب”. من ذلك الفضاء، يأخذ الفراغ المتشكل بين الشمع والأسلاك مدلولات أخرى؛ فتبدو كأنها جمل موسيقية تدور حول العمل في الفراغ الذي يحتضن المنحوتة، وتظهر الكمنجى مكتملة مُقابل عازفة غير مكتملة التكوين. وبذلك يعود “التلاشي” الإنساني إلى الظهور حتى في لحظات الفرح، فتفشل دعبول في الهروب، لكنها تترك وراءها أعمالًا جميلة.
شادية دعبول فنانة تشكلية من مواليد عام 1977، تخرجت في كلية الفنون الجميلة في دمشق، اختصاص نحت، عام 2006، شاركت في معارض فردية وجماعية عدة، واشتغلت خلال هذه الفترات على الإنسان، ببعده المحلي ضمن الظروف التي تمر بها البلاد.
سليمان حسان
المصدر
جيرون