علم جمال التلقي الذائقة والاستمتاع



الاستمتاع في التلقي هو جزء مهم من منظومة المعرفة، فلا يمكن أن تكتمل متعة التلقي، من دون منظومة معرفية مسبقة، شكلتها التجربة، أو المعرفة العلمية في تفاصيل المركب الفني. يتلقى الإنسان معرفته عن طريق الحواس، وتنقل هذه الحواس العالمَ الخارجي بشكلٍ ما إلى الدماغ، الذي يقوم بتحليل التلقي وتركيبه، وإعادة إنتاجه بشكلٍ ما أيضًا.

الاستمتاع في التلقي هو إعادة إنتاج معرفي للتلقي، والحواس قد تبدأ بدائية “فطرية”، لكنها تتدرب وتتطور طردًا مع تراكم المعرفة والتدريب. ومن الاستحالة الاستمتاع بمعزوفة “سيمفونية” للوهلة الأولى، أو الاستماع لأول مرة في الحياة تلقائيًا؛ حيث إن الأذن المتلقية تنقل الأصوات الموسيقية، مهما كانت متناغمة، إلى الدماغ الذي يتلقى/ يسمع سيمفونية لأول مرة، فلا يجدها أقل من نشاز صوتي مغايرٍ للطبيعة التي كوّنت تلقيه الأولي أو الابتدائي، وفي غياب تعوّده على التلقي والتحليل؛ ستكون الموسيقى برمتها صوتًا غريبًا على منظومة وعي التلقي. من هنا يظهر دور ووظيفة الفن في التربية الجمالية للتلقي، وتدخل الثقافة والمعرفة والتدريب وخلق روح التعود الاجتماعي للوعي الجمالي؛ لذلك فإن التلقي الجمالي المتأخر هو مشقة معرفية للمتلقي، إذ يشكّل نفورًا أوليًا مباغتًا لجميع الحواس المعنية بنقل الجمال الطبيعي أو الأخلاقي من قبل المبدع. وهو مشقة على المبدع أيضًا، وهو يراعي المتلقي البدائي لإبداعه. فالجمهور ميزان مضلل وخادع لتقويم الإبداع، من خلال ثقافته في التلقي.

لذلك، تقوم المؤسسات التعليمية والاجتماعية، كالمدرسة مثلًا، بتربية الأطفال على تلقي الصنوف الإبداعية، وأيضًا تقوم مؤسسات أخرى مدنية وحكومية، في نشر الإبداع اجتماعيًا؛ لخلق ثقافة التلقي ومحو أمية التلقي البدائي الفطري، كما يسمى عادةً. وتسهم في ذلك العمل الأسرةُ والبيت، كنواة لخلق هذا التلقي، من خلال تعويد الحواس والنظم المعرفية لدى الأبناء، على مشاهدة وقراءة وسماع صنوف الإبداع المختلفة.

المبدع الفرد لا يستطيع تهذيب مجتمع، من دون التكاملية الاجتماعية في خلق الجمال وطرائق التلقي له. المهندس يعمل على البناء، كفعل جمالي، وعلى الطرقات والألوان والحدائق وتشكيلاتها، وكذلك مصممو الملابس والأحذية، وصانعو السيارات والباصات، وواجهات المحلات التجارية وتناسقها، يعملون بتناغم يشبه النوتة الموسيقية في المعزوفة الفنية المتحدة؛ فتبدوا المدينة وتكويناتها تكاملية جمالية، في تلقي الصورة العفوية للمدينة والشارع والبيت.

سُئلت يومًا ما الفرق بين المخرِج السينمائي العربي والمخرِج السينمائي الأوروبي، على سبيل المثال، فكان جوابي: إن المخرج الأوروبي لديه مهمة تأطير الجمال، الذي أوجده الفعل الاجتماعي المتعدد، بينما المخرج السينمائي العربي، مهمته تنحية القبح في صنع الجمال، لأنه يعمل داخل منظومة عشوائية غير جمالية. في هذه العشوائية غير الجمالية يصبح المبدع غريبًا معزولًا، غير مفهوم، ويبدأ بتصنيع فنه تحت الشعار المريض تاريخيًا (الجمهور عايز كدا). في تلك الظروف يصبح المبدع مكبلًا، وفي داخله ألف رقيب جمالي ومعرفي، يطلب منه التنازلات حتى يصبح أحيانًا كثيرة، أقل من وعي المتلقي، محكومًا للأمية الجمالية الاجتماعية، التي تشكلت عبر تراكم من السنين، من غياب الوعي والتدريب والتعليم الجمالي. فضلًا عن الرقباء السياسيين والأخلاقيين والدينيين، الذين تحالفوا عبر تاريخ طويل من صناعة محرمات كثيفة وكثيرة، تتخلل وعي المبدع حتى يصبح جزءًا من المنظومة المشوهة جماليًا ومعرفيًا لذائقة التلقي.

في غياب تعميم الجمال بصريًا وسمعيًا ولمسًا وشمًا؛ تحدث الكوارث الاجتماعية والتطرف والاستبداد، ويعود المجتمع إلى بدائية تكوينه الفج في تلقي خارجه، وبالتالي العلاقة مع الآخر كفرد وكمجتمع، وتسود الخرافات والخزعبلات، والنفور من الجمال ذاته في الصناعة والزراعة والبناء، ومن ثم الخيال الذي هو نقل الإنسان لإنسانيته المعاصرة، وتتشابك العلاقات في غياب الفعل الجمالي إبداعًا وتلقيًا، لتقترب من الحيوانية الشرسة.

مقولة “الجمال منقذ العالم” ليست مقولة عشوائية ولا هي طارئة، بل تدخل في لب النسيج الاجتماعي المبدع، والقادر على تلقي الإبداع، ليتم إعادة إنتاج الجمال بمتوالية جمالية تثير الخيال، وتنتج الرفاه والسلم الاجتماعي الإنساني. ليس الجمال فعلًا طارئًا، بل هو إنشاء الضرورة، ليستقل مجتمع الإنسان عن مجتمع الحيوان المفترس والمتخلف تطورًا.

كما أن التلقي الجمالي وحسن هذا التلقي، ليس ترفًا ولا هو فعلًا زائدًا للحياة، بل هو القيمة الجوهرية لتطور الوعي وجعله خلّاقًا، مفرحًا، بانيًا للروح التي لا تموت. إن التلقي الجمالي وفعل جمال التلقي، يحتاجان إلى جهد فردي وأسري تربوي، واجتماعي عن طريق المنظومات الثقافية، والفكرية المتعددة في المجتمع الإنساني. كل مدينة ومدرسة تحتاج إلى مربين جماليين في تلقي الإبداع وتدريب الأطفال والكبار، من خلال بناء هذه المنظومة الجمالية، والإضاءة عليها.

نستطيع القول إن هناك أمّية متعددة في التلقي الجمالي، وقد يكون الفرد مبدعًا وقادرًا على تلقي صنف محدد من الجمال الإبداعي، لكنه أمّي بعشرات الصنوف والإبداعات الجمالية الأخرى. فالجمال وحدة متكاملة لا تتجزأ. تحتاج إلى تربية حسية ومعرفية شاملة؛ ليتم التلقي وإعادة إنتاجه؛ كي تصبح الحياة ممكنة.

** اللوحة للفنانة السورية زاريا زردشت


فيصل الزعبي


المصدر
جيرون