من “طبّون” السيّارة إلى الزنازين.. إذلال مستمر



اقترن “طبّون” السيارة في ذاكرتي، منذ الصغر، بنقل الأمتعة والخضار والفواكه، وأذكر أنني عندما كنت صغيرًا شعرتُ بالحزن على منظر “الخاروف”، وهم يضعونه في “طبّون” السيارة، إذ كنت أخشى على حياته داخل الطبونة المغلقة، ولم أصدق أنه سيظلّ حيًا طوال الطريق، وكم كانت فرحتي كبيرة لأنه بقي على قيد الحياة، لكنني في الحقيقة وقفتُ عاجزًا عن معرفة شعوره، وهو محتجز لأكثر من نصف ساعة، داخل طبون السيارة.

مع أنني سمعتُ قصصًا كثيرة عن عصابات إجرامية، كانت تخطف الناس وتنقلهم من مكان إلى آخر في طبون السيارة، وشاهدتُ ذلك أيضًا في بعض الأفلام، إلا أن ذلك بقي في إطار التمثيل، وعدم تصديق حدوثه على أرض الواقع، إلى أن شاهدتُ ذلك بأمّ عيني، ويا ليتني لم أشاهده؛ لأنني وقفت مشدوهًا ومصدومًا وعاجزًا عن فعل أي شيء يوقف هذه المهانة.

نعم، شعرتُ بالمهانة والإذلال، عندما شاهدتُ -أول مرة في حياتي- سيارةَ الأمن تدخل مسرعة إلى مرآب القصر العدلي في دمشق، في أيار/ مايو 2011، وفوجئت بوجود شابين في طبون السيارة، وهما في وضع القرفصاء، ووجههما باتجاه المقعد الخلفي ويداهما مقيدتان إلى الخلف؛ تسمرّت في مكاني، لم أصدق ما رأته عيناي، تابعت المشهد وأنا أشعر بالغضب والإهانة، وقفتْ السيارة أمام باب النظارة، ونزل عنصران منها، وفتحا “الطبون” ثم قاما بإنزال الموقوفين من “الطبون”، وكأنهما يتعاملان مع “كيس بطاطا”، وليس مع بشر من لحم ودم! بالكاد استطاع الموقوفان النهوض، وهما يحنيان رأسيهما باتجاه الأرض، وثيابهما مبللة نتيجة الحرّ الشديد.

لأول مرة في حياتي، أشعر بأنني لست إنسانًا، وتمنّيت لو أن الأرض انشقّت وابتلعتني، قبل أن أشاهد هذه الجريمة، ليس لأني لا أرغب في مشاهدتها، أو لأن قلبي ضعيف لا يقوى على تحمّل تلك المشاهد، بل لأنني شعرتُ في داخلي بالإذلال والعجز التام، تجاه جريمة تنال من كرامة الإنسان وتحط من آدميته، ولأنني كنت أتصوّر أن العصابات الإجرامية فقط هي من يفعل ذلك، ولم أتصور قط أن تصدر مثل تلك الأفعال عن أجهزة الدولة ومؤسساتها التي من المفترض أنها أنشِئت لخدمة الإنسان وليس لإذلاله وقهره.

أحد أصدقائي العزيزين على قلبي كان قد تعرّض للاعتقال في السنوات الأخيرة، قال معلقًا على “طبون” السيارة، إنه كان يحلم بالركوب في صندوق السيارة الخلفي منذ كان صغيرًا، وأخبرني -بحرقة وألم- أن حلمه قد تحقق أخيرًا، عندما انتزعته دورية أمنية تحت جنح الظلام من بيته وأمام أولاده وزوجته، ووضعته في “طبون” السيارة، ولم تكتف بذلك، بل قامت بجولة ليلية أمنية في شوارع دمشق، واعتقلت شخصين آخرين، إذ لم تشأ الدورية أن يبقى صديقي وحده في طبون السيارة، وهكذا حشروا الثلاثة في الطبون.. ليتحقق حلم صديقي بعد خمسين سنة من الانتظار، حلم امتزج بالإهانة والإذلال. في الحقيقة لم أتجرأ على سؤاله عن شعوره، عندما وضعوه في طبون السيارة؛ إذ لم أرد أن أذكره مرة أخرى بتلك الليلة المشؤومة.

قلت لصديقي: هل تصدّق أنني تمنيت أن أركب في سيارة المواقيف! فضحك صديقي ساخرًا منّي ومن أمنيتي.. قلتُ له لكن ليس في سورية، بل في فرنسا، فعندما زرت باريس، في الشهر الأول من عام 2012 برفقة الأستاذ خليل معتوق المعتقل منذ 2/ 10/ 2012، حيث تصادف وجودنا في ساحة الباستيل، بمشاهدة دورية من الشرطة الفرنسية وهي توقف رجلًا، ثم تقتاده باحترام لتضعه في سيارة الشرطة، اقتربتُ من سيارة الشرطة، وهي تشبه سيارة الإسعاف، وكان بابها الخلفي مفتوحًا وبداخلها ثلاثة مواقيف، لقد أذهلتني مقاعد السيارة المريحة وديكورها الداخلي الجميل، حتى تمنيت الركوب فيها، ودفعني الفضول إلى سؤال الشرطية إنْ كان يمكنني الجلوس في داخل السيارة، فاعتذرت منّي بلطف شديد قائلة: “هذه مخصصة  للذين يخالفون القانون، وأنت لم تخالف القانون”.

رغم أن مشهد اعتقال الناس واحتجازهم في طبّون السيارة قد تكرر أكثر من مرة أمامي، خلال السنوات السابقة، إلا أنني لم أستطع تقبله على الإطلاق، وفي كل مرّة أرى هذا المشهد؛ ينتابني شعور بالمهانة والإذلال. ولا أظن أنّ دولةً في العالم، تحترم نفسها، تسمح بحدوث مثل هذا الإذلال للنفس البشرية ولآدمية الإنسان، بهذا الشكل المهين لأبسط حقوق الإنسان، وإن حدث، فإن حدوثه يكفي لإحداث ثورة شعبية.

هذا عن معاناة الناس وإذلالهم داخل طبّون السيارة، لكن المعاناة الأكبر والأشد إيلامًا وقسوة هي تلك التي تحدث بعد طبّون السيارة، والتي يعانيها عشرات الآلاف من المعتقلين الذين أصبحوا يرون الموت خلاصًا لهم من الجحيم الذين هم فيه، ويحسدون من مات من زملائهم على موتهم، لأنهم ارتاحوا من العذاب اليومي، ومنْ أفلتَ من الاعتقال ونجا من قسوة السجون وعتمة الزنازين، لديه من يساعده ويخفف من معاناته، لكن من يقبع في المعتقلات والزنازين لا يملك أي خيار سوى العيش وحيدًا، بلا حول ولا قوة في مواجهة سجّانين لا يعرفون أي نوع من الرحمة أو الشفقة، يتفننون كل يوم بتعذيبه ومعاملته بقسوة لا تخطر على بال إنسان، حتى وصلت الأمور داخل تلك المعتقلات والزنازين إلى الحد الذي أصبح فيه المعتقل يتمنى الموت، للخلاص من هذا العذاب والتعذيب الذي يعيشه في كل لحظة وحين، على مدار اليوم.

لقد بلغ السيل الزبى، وتأخرنا كثيرًا، لا بل تقاعسنا عن مساعدة إخوة لنا يعانون الأمرّين في عتمة الزنازين والمعتقلات، لا حول لهم ولا قوة، مجردين من أي وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي، وليس لهم من يعتمدون عليه سوانا نحن السوريين الأحياء، فهل يصحو ضميرنا، ونعمل بجد وتفان لإنقاذهم من هذا الجحيم، وهم الذين خاطروا بحياتهم وبحريتهم من أجل حريتنا وكرامتنا؟


ميشال شماس


المصدر
جيرون