الجماعة الحاكمة والقضاء على النخبة العسكرية



لن تسمح لنا مساحة المقال هذه بالعودة إلى التاريخ البعيد نسبيًا، لتشكُّلِ النخب السورية العسكرية والمهنية والثقافية والسياسية والاجتماعية، وحسبنا القول إنه منذ أن أعلن السوريون استقلالهم عام 1946، كانت النخب حاضرة لإشغال مناصب مؤسسات الدولة الوليدة، كانت النخبة السياسية حاضرة لامتلاك السلطة وتكوين أحزابها المتنوعة، والنخبة الاقتصادية راحت تُفكّر بالاقتصاد الصناعي، والنخبة الثقافية بكل أطيافها الأدبية والفكرية والفنية راحت بكل حيويتها تنشر إبداعاتها في المدينة التي أخذت على عاتقها القيام بعملية التقدم التاريخي، فيما كانت النخبة الاجتماعية القروية تدخل عالم السياسة، اتكاءً على مكانتها وزعاماتها العشائرية التقليدية، وشرعت النخبة العسكرية تتشكل بحكم الضرورة العملية، وأسست النخبة الأكاديمية الجامعة السورية. وحتى تاريخ 1963 ظلت النخب السورية حاضرة، بوصفها عقل المجتمع، وقد تشكّلت ونمت من جميع طوائف المجتمع السوري وإثنياته.

ظلت النخبة العسكرية السورية التي قامت بانقلاباتها المتكررة، منذ انقلاب حسني الزعيم عام 1949 وحتى انقلاب الانفصال عام 1961، مُحافظةً على وعيها بالدولة ونظامها السياسي، إذ سرعان ما يعقب هذه الانقلابات عودة إلى الانتخابات النيابية واستمرار المجتمع السياسي والمجتمع المدني، رغم ما كان يرافق ذلك من غياب مؤقت للحياة السياسية، واستمرت فئة الضباط السوريين تاريخيًا بشعورها وسلوكها النبيلين والاعتداد بالذات، مع احترام الآخرين لها، والحفاظ المكانة المجتمعية المتميزة، حتى الستينيات رغم ما صاحب فترة الوحدة من تأفف. وفِي المرحلة الفاصلة بين 8 آذار/ مارس 1963، و16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 راح النبلاء العسكريون القادة يتساقطون؛ بفعل التسريحات ذات الأسباب الأيديولوجية والطائفية من جهة، وبفعل الانقلابيين الخطرين 23 شباط/ فبراير 1966، و16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 من جهة ثانية. من لؤي الأتاسي إلى زياد الحريري إلى راشد قطيني إلى محمد عمران إلى موسى العلي إلى فهد الشاعر إلى صلاح جديد.. إلخ. ومع انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970؛ بدأ الأسد بتدمير هذه الصفة في المجتمع والجيش، وطأفنة ضباط الجيش وضباط صفه.

كانت (سرايا الدفاع) التي شكّلها “رفعت” الصورةَ الأشنع لتحطيم النبالة العسكرية السورية عمومًا، ونبالة الضباط على وجه الخصوص، حيث كان ضباطه وضباط صفه وعساكره مجموعةً من الهمج الخارجين على أي قانون، ولهذا ترى أن أغلب من مرّوا بهذا الفصيل العسكري حثاليو السلوك.

إن (سرايا الدفاع) ليست حدثًا عابرًا، انتهت آثاره بانتهاء وجودها بالاسم وتحولها إلى الفرقة الرابعة، بل لقد أسّست سرايا الدفاع شكل الوعي بالسلطة، لدى كل مكونات المجتمع. فهذه السرايا التي يقودها القائد أخو القائد هي عالم مستقل عن مؤسسة الدول، حتى الشرطة العسكرية المسؤولة عن انضباط الجيش لم تكن لها أيّ سلطة عليها، بل كان لها شرطة عسكرية خاصة بها، ويستمدّ ضباط السرايا سلطتهم مباشرة من سلطة القائد المنفلت من عقاله، الذي لا يحفل بأي قوانين أو حقوق ملكية أو قيم مجتمعية، وهكذا تحوّل الوعي الذي تشكّل في هذه السرايا إلى الوعي السائد لكل من هو عنصر في بنية السلطة.

بالمقابل، كان وعي المجتمع بالسلطة مستمدًا من وعي السلطة بذاتها؛ فنظر إلى السلطة بوصفها قوة غريبة، بل قوة احتلال، وجاءت حادثة نزع “الإشاربات” عن رؤوس النساء في دمشق، من قِبل مظليات رفعت الأسد عام 1981، لتؤكد للمجتمع انفلات السلطة من القيم والأعراف السورية.

حين ابتلعت المخابرات العسكرية المكانة المهيبة للجيش، وراح الجيش يُعاني من الضائقة المالية، وبخاصة في التسعينيات، في الوقت الذي راح فيه ضباطُ الأمن ينعمون بالثروة والسلطة، وبعض كبار الضباط الذين يشكلون عصبية الحكم العسكرية؛ دبّ الفساد في هذه المؤسسة، وراحت شيئًا فشيئًا تفقد صورتها التقليدية لدى المجتمع، وأهـيل التراب على النبالة العسكرية.

وإذا أضفنا إلى ما سبق التجربةَ المرة للجيش في لبنان الذي تحوّل هو الآخر إلى سلطة غازية؛ أدركنا الدمار الذي لحق بأخلاق الجيش القائمة على الانضباط والترفع والاعتداد بالذات.

لا شك أن زجّ الجيش السوري، في معركة مدمرة ضد مدن سورية وقراها، واقعةٌ من أخطر الوقائع التي مرت على سورية وستمر، وإذا أضفنا إلى ذلك فقدان هذا الجيش مئات الآلاف من القتلى والجرحى؛ أدركنا حجم المصيبة التي نشأت وتطورت بفعل الحل الأمني – العسكري الذي استنته السلطة، في التعامل مع الحراك الشعبي السلمي.

إن السؤال الذي يجب على الذي يُفكّر في سورية المستقبل أن يجيب عنه: كيف يمكن بناء جيشٍ وطني، يتمتع بالنبالة العسكرية والاعتداد بالانتماء إلى الشرف العسكري، ويقوم بوظيفة حماية الدولة والمجتمع، ويحتكر القوة وحدها؟ فالدولة بالمعنى الدقيق هي التي تحتكر القوة ووسائلها.

إذًا، لا يمكن أن تقوم دولة، وفيها ميليشيات قادرة على استخدام القوة، فالميليشيات ضد الدولة. ومن هنا نُدرك استحالة قيام الدولة في لبنان ببقاء “حزب الله”، واستحالة قيام الدولة في العراق بوجود عشرات الميليشيات فيه، واستحالة قيام الدولة في سورية واليمن وليبيا.

ولعمري إنّ استقدام ميليشيات طائفية – شيعية، من لبنان والعراق وإيران للقتال في سورية، لهو أكبر إهانة لمؤسسة الجيش نفسها، هذا دون أن نتحدث عن استقدام القوة العسكرية الروسية، بل إن مجرد استقدام السلطة للميليشيات يدل على أن الدولة فقدت أهمّ عنصر من عناصرها، وهو احتكار القوة، فمواجهة ميليشيات (داعش) و(النصرة) لا تتم بميليشيات على شاكلتها.

لا شك عندي في أن سؤال الجيش الوطني هو نفسه سؤال الدولة الوطنية – الديمقراطية.. سؤال الجيش الوطني سؤال التحرر من روح (سرايا الدفاع) التي أسست لخراب الروح الوطنية للجيش السوري.


أحمد برقاوي


المصدر
جيرون