on
بهلوانيات
لا يُطرح السؤال: كيف صار لعدد من الكتّاب والمثقَّفين، السوريين والعرب، أن يؤيّدوا الاستبداد والمستبدّين في سوريّة أو بلدان عربية أخرى، من باب مصادرة حقّهم بالرأي، بل انطلاقًا منه، واستنادًا إليه.
فأعمالهم الأدبية والفكرية والفنّية، السابقة على النهوض الشعبي العربي، مترعةٌ بالنزوع الشديد إلى الحريّة، والدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته وعيشه.. إلخ، وهي -في الآن نفسه- توَّاقة إلى نهوض الشعوب المظلومة في مختلف أنحاء العالم -وليس العربي فقط- بغية رفع مختلف أشكال الطغيان، والترهيب، والظلم، والاستئثار بالسلطة، وحكم العسكر.. وما إلى هذا، وقد احتشدت أعمالهم الأدبية من مختلف الأجناس بذلك، وكذا مقالاتهم وحواراتهم الصحافيّة ومقابلاتهم التلفزيونيّة وأمسياتهم ومشاركاتهم في المنتديات.
بل لو أنه حدث -قبل سنوات النهوض العربي- وقيل لأحدهم، أو تمَّ الإلماح له، بأنه في كتابه هذا، أو أمسيته تلك، أو حواره ذاك؛ قد بدا -على نحو طفيف- كما لو أنه يناصر الاستبداد، أو يُبرّره، أو يتفهَّم أسبابه ودواعيه؛ لأقام القيامة على القائل أو المُلْمِح من دون أن يُقعدها، ولصبَّ على رأسه الحممَ الجهنَّمية، مُستشهدًا بعشرات المقاطع والاقتباسات من كتاباته وأعماله الأدبية المنشورة وأحاديثه التي تدين وتفضح وتنشر عرض الاستبداد والمستبدّين في أي بقعة من العالم تواجدوا.
أكثر من هذا، فإنَّ من بين عديد الكتّاب والمثقَّفين -موضوع حديثنا- مَنْ اعتُقلوا من قِبل مخابرات أنظمة الطغيان الحاكمة في بلدانهم، وعُذّبوا، وطالت سنوات سجنهم من دون أي محاكم أو محاكمات. وثمَّة مَنْ هُدّدوا بمعاشهم أو أبنائهم، وكذا مَنْ صُودِرت جوازات سفرهم وحُرموا من مغادرة البلاد لأيّ سبب كان، وثمَّة مَنْ نُقِلوا من أعمالهم إلى أقاصي البلاد، أو مُنِعوا من النشر في بلدانهم أو من العودة إليها… وما إلى هنالك من ممارسات سلطات الاستبداد العربي.
من هنا بالذات، يُطرح السؤال: أي من الاحترام لحقّهم في التعبير، وقد عبَّروا عن رأيهم، من سيرة حيواتهم، وقد اكتووا من المستبدّين العرب وسلطاتهم الحاكمة، ومن حقيقة كونهم -فضلًا عمّا سبق- قد شكَّلوا، في الأوساط الاجتماعيّة العامة أو الثقافيّة الخاصة، رموزًا ثقافية لمناهضة الطغاة ومناصرة الحريّة.
ومن هنا بالذات أيضًا، يحقُّ التساؤل عن صدقيَّة مواقفهم السابقة، وما كتبوه وعبَّروا عنه من قبلُ، بل التشكّك فيه؛ هل كان -كلُّه- كذبًا وتمثيلًا وركوبَ موجةٍ، وكان كلّ ما عانوا منه، وعاشوا آلامه واكتووا به، وقائعَ من خيال وادّعاء.. أم أن انتصارهم للمستبد، وانحيازهم لطغيانه، والتبخير لجرائمه، والتغاضي عن أعماله في التدمير والإبادة والتهجير؛ هو التلفيق الموغل بالدجل الذي يمارسونه، والتعامي المكشوف عن مقتلة الطغيان ضد الناس، منذ النهوض الشعبي إلى اليوم؟
تراهم، كيف استطاعوا أن يجمعوا في أنفسهم شخصيَّتين، ورأيين، وموقفين متناقضين، في آن؟ إنْ لم يكن إزاء النهوض الشعبي العربي، هائل الحجم، وغير المسبوق، بحيث قد يكون في نظرهم حمَّال أوجهٍ؛ فإزاء مستبدّ -هو نفسه- لطالما لعنوه ولعنوا أباه، وطغيانٍ -هو بدمويّته وقباحته- لطالما عانوا من كابوسه، ورجال أمنٍ وسلطة هم بأشخاصهم مَنْ شكَّلوا لعنةً للبلد، السابقة على النهوض؟
ومرة أخرى، انطلاقًا من رأيهم، ومعاناتهم، وليس تعدّيًا على ذلك، لا بدَّ من التساؤل: كيف صار لهم أن ينقلبوا ويتشقلبوا على هذا النحو البهلواني؟ وكيف برَّروا لأنفسهم انقلابهم على مواقفهم وكتاباتهم، وعلى ما عبَّرت عنه يومًا، وعلى جراحٍ في كرامتهم لا أدري إنْ اندملت، وعلى ظلم فادح وقع عليهم، وعلى مهانات لم تحدث وانقضت، بل ما زالت تزداد وتتوغل -منذ سنوات- أكثر فأكثر في حياة ناسهم، وفي حيواتهم أيضًا، كما يُفترض؟!
إبراهيم صموئيل
المصدر
جيرون