تسريبات سورية من دم ولحم!



اعتمد الإنسان العربي المعاصر لثورات وانتفاضات عربية، على مجموعة حقائق، أعادت صياغته للمعرفة بإصرار، لعدم قبول ما يقرر سلفًا، كما يمكن أن نلمس حقيقة أخرى في ضوء الثورة السورية التي تصح وحدها نموذجًا لتناول نظرة الإنسان إلى مختلف القضايا، وما أحدثته في بنيان المعرفة ووسائلها، وتقدم هذه الحقيقة جملة معطيات، أولها أن ما اطّلع عليه الإنسان العربي والسوري في حقبة الأنظمة الديكتاتورية في العالم، يؤكد أن ذروة ما وصل إليه الأسد الابن لا يشبه تلك الأنظمة التي عرفناها في تاريخ الفاشية، هنا لدينا نموذج ذهب بتفوهاته، وسلوكه إلى حدّ الاستماتة على البقاء، وبات أي نقاش في أبديته من المحرمات.

أما المعطى الآخر، فيتجلى من خلال وحشية فجة، تمثلت في التعاطي مع الشعب السوري وقضيته التي كشفت معظم التسريبات والأحداث، خلال الأعوام الماضية، الدور الحقيقي الذي تمارسه بعض النظم العربية وأحزابها وحركاتها السياسية ونخبها، للمساهمة في القضاء على تطلعات الشعب السوري، والنظر إليه كحالة سلبية ومعطى ضار بقضايا الأنظمة ونخبها وحركاتها، المجتهدة والمواظبة على إظهار نضال الشعب السوري على أنه محدود المردود والفاعلية، بعد سقوط أساطير وخرافات فكرية ونضالية وشعاراتية وسياسية.

لا تُقبل الحقائق بشكل إرادي دائمًا، بل تفرض ذاتها من خلال صدقيتها، أي أن العقل لا يقبلها بالضرورة بسبب اقتناعه بها، بل لأن الحقيقة تصبح جزءًا موضوعيًا من الحقيقة التاريخية التي تنمو يومًا بعد يوم، يصدق هذا بشكل عميق ودقيق على محور النظام السوري وحلفائه ومسانديه، على مختلف مستوياتهم، فعندما يستميت السياسي والمفكر والفنان والمثقف والمناضل والمأجور، لتمرير غرور قاتل فاشي، لمواجهة شعب أعزل والتغني بانتصارات زائفة على “الجغرافية” السورية؛ تصبح كل التسريبات التي عرفناها عبر التاريخ، من مؤامرات أو انكسارات لا معنى لها ولا جدوى منها، إن لم تفرض تلك الحقائق نفسها لتغيير التاريخ.

في تسريبات النخب العربية وسياسييها ونُظمها، كانت الصهيونية والإمبريالية والمؤامرة تشكل عماد التشويه والتحريف للقضايا المصيرية، استبدلت في الوقت الراهن بالثورات والربيع العربي وربط كل ذلك بالإرهاب، الذي يطلقون عليه “خريفًا”، وتنعت الثورات بأنها سبب لتردي القضايا “المصيرية”، مع أن التسريبات ذاتها تشير إلى المعنى الحقيقي للمؤامرات، ودورها في تثبيت الحدود النهائية لأمنيات الإنسان العربي، في البقاء للأبد “متنعمًا” في الاستبداد والظلم والهوان، يُؤخذ على الثورة السورية هنا أنها سرقت المراتب الأولى لبرامج الشعارات وفككتها، وتفشل كل محاولات إعادة تركيبها، وعلى الرغم من السلوك الوحشي وضخامة آثاره، يبقى العبء الأكبر على السياسة العربية ونخبها، إجبار الإنسان على تصديق ما تفرزه دهاليز العقل الفاشي في دمشق، العقل الذي ارتبط وجوده مع الشعارات المثقلة بشلالات الدم.

قبل الثورة السورية، كان الخيال السياسي ينسرب إلى الماضي، ويصبح الغوص في الماضي ضرورة تعالٍ إرادية، لاجترار الأحلام لتلطيف جور الحاضر، وإزاء بؤسه وترديه في الواقع، يدخل واقع السياسة والثقافة والأدب والفن الملتصق بمراتب وتمتمات الطاغية في كهولة وموت، تعالت تحذيرات أتباع الطاغية من ترمل وعقم تصاب به الأمة، وهبّ الجميع لمساندته، فلم تعد الأسرار والرسائل المصدر الوحيد للفضائح والعار، كما كانت عليه الحال لتسريبات وثائق التاريخ التي يتم الكشف عنها للإنسان العادي، لدينا في الواقع تسريب من دمٍ وضحايا وتدمير هائل، هل تكفي صور مسربة لأطفال يحتضرون من الجوع بفعل الحصار، أم تسريب عشرات آلاف الصور لضحايا تعذيب في أقبية الأسد، يظهر عمق المأساة التي يعيشها العربي، والسوري على وجه الخصوص، مدى مرارة حاضره للتعايش مع الموت والقهر والظلم وجعله مرتميًا في أحضان الشعارات.

يقود تجاهل الحقائق إلى تبسيط وتحلل الصراعات بمنطق وهمي، كما أن حجب التناقض مع الطغيان والاستبداد ومخلفاتهما يقود إلى تساقط الشعارات الكبرى وتقزيم قضاياها، وأن المعادلة التي سرت على مدار عقود بالتناقض مع العدو أولًا، لا تعني أن لا يكون سلاحها الطبيعي الحرية والكرامة والمواطنة، وهذا يلخص إصرار الطاغية مع عصاباته، على تجريد السوريين من أسلحتهم، لكن التخفيف من قيمة هذا السلاح وتجاهله أجهض وأعاق “حلم” الطاغية للأبد، ألا يكفي السوريين فخرهم بما أُنجز إلى موعد حرية مطلقة؟


نزار السهلي


المصدر
جيرون