ثورة ناعمة في بيروت



كانت استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة في لبنان مفاجئة حتى لشركائه في الحكومة، وليس للإقليم ودول العالم فحسب، مفاجئة ليست مستهجنة بل متوقعة، بعد أن وصل لبنان أو شارف إلى الوصول إلى اللا دولة.

الآراء التي واكبت الاستقالة أتت متناقضة، بين مؤيد لها ومُستنكر، المستنكر الوحيد كان (حزب الله) الذي اتّهم الحريري بمحاولة إشعال فتيل الحرب في لبنان والمنطقة، والمؤيدون لاستقالته هم باقي لبنان، الذي ضاق ذرعًا بممارسات (حزب الله)، من خلال وجوده دولةً فوق الدولة، وسلطةً فوق السلطة، وجيشًا فوق الجيش، وأصبح يستقوي بإيران على باقي الأطياف في لبنان التي بلغت الوقاحة مداها، حين صرّحت إيران الرسمية، أكثر من مرة، بأن لبنان خاضع للمشيئة الإيرانية وإرادة الولي الفقيه.

(حزب الله) الذي أخذ كل لبنان كرهينة تحت قوة السلاح، منذ عقود، يرغب في بقاء سعد الحريري رئيسًا للحكومة؛ لأنه يُشكّل غطاءً وطنيًا للحزب وسلاحه، واستقالته تكشف ذلك الغطاء، ليبقى الحزب عاريًا بسلاحه ومشروعه الإيراني في لبنان والمنطقة، من الجنوب اللبناني إلى العراق واليمن مرورًا بسورية.

سعت الدولة اللبنانية كثيرًا، طوال سنوات، لاحتواء (حزب الله) سياسيًا وعسكريًا، ودعت منذ سنوات إلى طاولة حوارٍ من أجل البت بسلاح هذا الحزب، إلا أن الحزب كان يتهرّب ويُماطل طوال سنوات؛ حتى وصل به الأمر إلى أن يفرض نفسه، انطلاقًا من بيروت، كقوة إقليمية تأتمر بإرادة سياسية خارجية لتنفيذ مشاريع لا علاقة للدولة اللبنانية فيها، وكان الحزب دائمًا يأخذ الجزرة ويكسر العصا، ويذهب إلى جولاتٍ جديدةٍ من التمادي والتطاول على سلطات الدولة اللبنانية، وصلت إلى حد التطاول على الجيش، حين منعه من التصدي لتنظيم “الدولة الإسلامية”، وتحرير الجنود اللبنانيين من الأسر، قبل سنوات، وذهب الحزب لاحقًا، ليعقد الصفقات مع هذا التنظيم الإرهابي، وليعمل على تأمين مقاتليه بحافلات مُكيّفة، لينتقلوا إلى مناطق محددة في الداخل السوري، ليظهر الجيش الوطني للدولة بمظهر العاجز والمشلول، وبتأييد من رئيس دولة لبنان الذي وصل إلى سدّة الحكم، من خلال صفقة مع الحزب.

فور إعلان رئيس حكومة لبنان استقالته في خطاب مُتلفز، مرفقًا بشرح واف عن أسباب الاستقالة؛ بدأت الماكينة الإعلامية لإيران -من طهران إلى لبنان- بكيل الاتهامات للحريري، واتهامه بالتآمر مع السعودية تارةً، ومع (إسرائيل) تارةً أخرى، ومع كليهما تارةً ثالثة، وزعمت أن الحريري يسعى لإشعال فتيل الحرب في لبنان والمنطقة، متناسيةً تمامًا بأنه مطلوبٌ من (حزب الله)، منذ سنوات، تسليمُ سلاحه للدولة اللبنانية، تنفيذًا للقرارات الأممية التي قبِل بها الحزب حين صدورها، يومَ كان الحزب تحت وابل النيران الإسرائيلية، ومتناسية أيضًا أن الحزب مُتهمٌ بالإرهاب منذ سنوات، ومُدان بعشرات العمليات الإرهابية في لبنان وخارجه، وضالع بتصنيع وزراعة المخدرات والمتاجرة بها على المستوى الدولي، وتناست كذلك تدخلات الحزب في دول خارجية، من سورية إلى العراق والكويت والبحرين واليمن، وهذا كله، قبل استلام سعد الحريري لمسؤولياته، كرئيس للحكومة التي قبِل بقيادتها على أمل إنقاذ لبنان، وحاول جاهدًا ذلك، إلا أن الحزب بقي يُمارس أعماله المستفزة، فارضًا نفسه شريكًا مع الدولة من جانب، ودولةً فوق الدولة من جانب آخر.

استقالة الحريري، في هذا التوقيت وضمن الظروف الإقليمية والدولية الحالية، هي ثورة ناعمة، تهدف إلى قيام دولة لبنان الرسمي والحقيقي، لبنان العربي الحر السيد المستقل، خطوة قد تكون مُكلفة، ولكن كلفتها -مهما كانت مرتفعة- تبقى أقل من كلفة تأجيل البت بسلاح حسن نصر الله، وإنهاء ظاهرة الميليشيات المسلحة، في هذا البلد الذي خرج من معاناة مريرة خلال الحرب الأهلية، ليدخل في معاناة جديدة، وقد كُتب عليه أن يبقى أمنه واستقراره رهنًا لمشاريع إيران وطموحاتها في المنطقة.

لا بدّ للمجتمع الدولي التحرك الآن من أجل لبنان دولةً وشعبًا، وتنفيذ القرارات الأممية، وإنهاء دويلة (حزب الله) التي لا تقلّ خطرًا عن دويلة البغدادي، بل هي أشد خطرًا منها؛ لأن دويلة الحزب منظمة بشكل أفضل، وتحوز على تمويل كبير ومُنظّم من طرف الدولة المُشغّلة له (إيران)، ويجب أن يساهم المجتمع الدولي في القضاء على كافة الميليشيات المسلحة في لبنان والمنطقة، وعلى رأسها (حزب الله)، خلال معركته ضد الإرهاب، كل الإرهاب.


مشعل العدوي


المصدر
جيرون