عبد الله يستعيد رأسه



في وقت من الأوقات، كان رأس عبد الله يتدحرج في بلاد الشام، وجسده يبحث عنه في شوارع الكوفة! وفي وقت آخر كان يتدحرج في بغداد العراق، وجسده يبحث في دمشق الشام! ولم يدرِ عبد الله كم من دهرٍ مرّ، وهو يتراكض بين تشريق وتغريب، وحين استطاع أن يمسك به لم يصدّق أنه صار بين يديه، تنهّد قائلاً:

أخيرًا ها أنت ذا أيها الطريد الشريد! لن أسمح بعد اليوم لأحد أن يأخذك، أو يملكك أو يأسرك، أو يرديك! أنت منذ اليوم لي يا وطني.

وضعه مباشرة بين كتفيّه، فإذا به يستقرّ تمامًا. حرّكه إلى يمين، حرّكه إلى يسار، هزه ليتأكّد من مدى قوة تماسكه، فأحس أنّ الأمور عادت طبيعية. رأس عبد الله عاد كما كان، وعبد الله عاد كما كان، وكلاهما عادا كما كانا، قبل حادثة السقوط اللعين.

الجسد تعرّف على الرأس، وتعرّف الرأس على الجسد، وإلا؛ فما سرّ هذا السرور وتلك الرّاحة اللتين لم يشعرا بمثلهما منذ زمن طويل؟ وسرعان ما تذكّر عبد الله بيته الجديد، ومكان عمله ووظيفته ومدينته التي كان فيها يعيش. وها هو عائد في طريقه إلى حي القصور، يتملّكه إحساس مريح. قال:

أتمشّى في شوارع المدينة، فبي شوق كبير إلى الشوارع، وإلى حركة الحياة والبشر. في الحقيقة، منذ زمنٍ بعيدٍ لم أعرف شوقًا كهذا الشوق، ولا حنينًا كهذا الحنين… وتابع المسير.

كل شيء يراه يكتشفه من جديد، وربما لهذا السبب، كان يقظًا، تملؤه حماسة وحبّ، لهما طعم التعلّق بالمكان والبشر. قدماه تقوداه حيث تريدان، تركهما تفعلان، كاد ينسى التّسكّع، ينسى قذف الهموم إلى خلف وتركها وراء الظهر، ثم المسير! المسير هكذا لوجه المسير!

قدماه أوصلتاه جوار “المسجد الكبير”، فتذكّر مباشرة أنه في هذا المكان تحديدًا سمع أوّل خطبة له! ربما كانت تلك الخطبة أشهر خطبة في التاريخ! وترك خياله يستحضر الحضور والمشهد والمنبر والعمامة والعبارات القاطعة كحد السيف، العبارات التي نقشت حروفها في الرؤوس، كما تنقش الكلمات في جلاميد الصخور. المسجد وسط المدينة التي كانت بيعت أكثر من مرة! مرة بيعت بالمزاد، ومرة بالمساومة والحوار، وآخر مرة باعها الحجاج سرًّا دون أن يعلم بحقيقة الأمر أحد، اللهم إلاّ بعض المقرّبين! وتذكّر أن دار الإمارة لا تبعد أكثر من خمس دقائق من هنا. حطّت به الذاكرة مباشرة أمام حادثة السقوط الكبير، السقوط اللعين، يوم طار رأسه من فوق كتفيّه، وجعل يتدحرج. من يومها وهو يركض خلفه؛ كي يعود به إلى حيث كان يجب أن يكون. مدّ يده إليه (كل مدّة يمدّ يده ليتأكّد، فهو لا يكاد يصدّق أنه عاد): لا.. لا.. الحمد لله هو مستقرّ وقوي، يبدو أن الكابوس الذي كان رحل ولن يعود. وهمّ بأن يحمد الله مرة أخرى على هذه النعمة: أن يكون رأسه ثابتًا غير مهدد بالسقوط. لكن فجأة!

من هذا الذي يفترش الرّصيف؟ يترك ظهره يستند إلى حائط “المسجد الكبير؟ ويهوّم بين نوم ويقظة وشرود؟ اقترب أكثر فرأى العصا! ما هذه العصا؟  كأني رأيتها من قبل! رأى العمامة أيضًا! العمامة مرمية جوار العصا. ما هذه العمامة؟ أيضًا كأني رأيتها من قبل! ووقف يحدّق على أبواب الذّهول!!

كان على أطراف العبور، فوقع بصره على عينين صقريتين! كاد يعبر… ووجد نفسه يعود مرتدًا إلى خلف! راجعًا إليه، إلى ذاك الذي يفترش الرّصيف. كأن ذاكرته اكتشفت ما لم يخطر لها، وما لم يخطر له في بال، وتجمّدت عيناه وهما تنظران إليه من جديد! نهضت من أغوار الماضي السحيق صورة الفم المزموم الغاضب، وسمع فعل الأمر الذي لم ينزل إلى الأرض، قبل أن يحط على حدّ ذلك السيف الذي هوى… آخر ما كان رأى، رأى رأسه يتدحرج. بعدها لم يره ولم يعرف أين حط به الدهر، كان مشغولاً دائمًا بالركض خلف ذلك الرأس الذي صار بعدها يتدحرج، طويلاً من الزمن تدحرج إلى أن نجح منذ حين في إعادته إلى مكانه!

يا الله! إنه هو، الحاجب نفسه، شكل الرأس المثلث، الشفتان، الذّقن الناتئ، الأذنان المنتصبتان كأذني ثعلب ماكر… وقف يحدّق في المستحيل، وقف قدّامه.

ها هي عصا الجبروت والغطرسة، عصا الملك والسيادة، مرمية كيفما اتّفق، وعمامة الإمارة، العمامة نفسها التي صفع بها وجه المنبر وعيون المنتظرين. كلاهما -العصا والعمامة- يستلقيان جوار ركبتيه على الرصيف، كما يستلقي أي متسوّل شريد!! بين مصدّق ومكذّب وشاكّ ومتأكّد، ورغم أنه عرفه تمامًا، فإن ينسَ كل العالمين فهذا تحديدًا لن ينساه أبد الدهر!

هو هو! وربّ الكعبة هو! يا إله السماوات إنه هو تمامًا! لكن كيف؟ هذا متسوّل يستجدي تبرعات المحسنين، أمّا ذاك! يا لهول ذاك الذي كان يجمّد البول النازل بين الأفخاذ! معقول معقول.. الحجاج!! ونطق:

– أنت؟

نظر نحوه، وتفرّس به لحظةً، كأنه بدوره فوجئ، ثم تساءل هو أيضًا:

– أنت؟

– أنا تمامًا أنا.. لكن هل أنت هو أنت؟

– تمامًا أنا هو أنا!

– معقول أن تكون أنت هو أنت؟

فردّ مباشرة:

– ومعقول أن تكون أنت هو أنت؟

– أما أنا فمعقول، وهذا رأسي كما ترى يعود إلى مكانه! وها أنا ذا أمشي به، كما كان ويزيد.

ترك عبد الله لعينيّ الحجاج أن تتوقفا ناظرتين إلى الطقم الكحلي الثمين الذي يلبس، وترك له حرية أن يقرأ ويفكّر، ويقارن بين ثوبه العتيق البالي وثوب عبد الله الجديد. في الحقيقة كان يريد أن يسترسل كثيرًا:

لا أنفي أن رغبة جامحة تملّكتني في أن أنهال عليه، صفعًا وضربًا ولكمًا وسبابًا وشتمًا ولبطًا، لكني في الحقيقة لم أفعل، لا أعرف لماذا قدّرت أنّ ما هو فيه وما هو عليه، عقاب كاف. ما هو فيه عقاب يرتديه.

اكتفيت بأن أنظر، أن أحدّق، أن أرسّخ حضوره بما هو عليه، وما هو فيه، ثم أدرت ظهري ومشيت.. انتابني شعور مريح وغريب، لكني في الواقع لم أقذف إلى حضنه أي قطعة نقود، تركته كما هو، فقط أدرت ظهري ومشيت. ثم مشيت.


عبد الحميد يونس


المصدر
جيرون