الثورة على الكهنوت عند إقبال

7 نوفمبر، 2017

أكتب مرة أخرى عن محمد إقبال على صفحات (جيرون)، وفي الواقع، إن اختياري لإقبال نابع من مكانته الكبيرة، لدى جيل النهضة؛ فقد كان أذان الرجل بوصلةً ترشد الحركات الناهضة الباحثة عن مكان لهذه الأمة، يليق بها بين زحام الأمم.

في الواقع، لم يكن محمد إقبال مجردَ شاعر يخلّد تاريخ الحضارة بشعره وكلماته، ويترنم بها، بقدر ما كان بصيرة ثاقبة، يُدرك سقم هذه الأمة وسرّ سقوطها، ويعرف منهج تجددها وقيامها.

في وعيه بكارثة “تغوّل الكهنوت” على الحياة؛ كتب إقبال فصولًا كثيرة، وكان يتجه مباشرة إلى واجب البناء المدني للدولة، وعدم السماح بتدخل الأيديولوجيا في بناء الأوطان، وهي الحقيقة التي بدأ الشارع الإسلامي يدركها، بعد قرن من المحاولات التي انتهت بالارتطام بجدران الواقع، وأفاقت منها الحركة الإسلامية تلملم الجراح وتقرأ الدروس البائسة.

ليس سرًا أن التجديد الديني هو -في الجوهر- صراع مع الكهنة، وقد حدد إقبال ثورته بوضوح، فهو ثائر في وجه الخرافة، وهو معني بمطاردتها في كورها ودورها، وليس سرًا أن نقول إن الخرافة اعتادت التخفي في عمائم الشيوخ والكهنة الذين يبيعون تجارة الوهم للناس، ويتاجرون بها.

كان يؤلمه الانحراف الكبير الذي يمارسه بعض رجال الدين من التجارة، بالسحر والوهم والشعوذة، وقد دفعه هذا الموقف إلى اختيار رأي حاد في رفض القدر، بوصفه دعوة إلى الاستسلام والخنوع، وفي مواجهة ذلك؛ كتب طويلًا، وربما كان ما كتبه في القدَر هو أشد الآراء جرأة ومواجهة ضد الكهنوت؛ حيث عدّ أنّ رجال الدين والكهنة تجارُ وَهمٍ، وأنهم يسلّمون الناس إلى أقدارهم المهيضة، ليبتزوا أموالهم، بدلًا من دفعهم إلى التغيير ومواجهة الأقدار بشجاعة وبصيرة.

كان إقبال صريحًا في أنه يرفض الواقع الذي انحدر إليه تجار الدين، ولا يقصد بالطبع أولئك الذين اختاروا الزهادة والخفة نهجَ حياةٍ وأسلوب عيش، ووجدوا في أكواخهم من الرضا ما تحسده عليهم قصور الملوك:

ذهب الدراويش الذين عهدتهـــم …  لا يأبهون لصــــــارم ومهنــــــــــدِ

وبقيت في حرمٍ يتاجر شــــــيخه …  بوشاح فاطمة ومصحف أحمدِ

ويمضي إقبال في ثورته على تجّار الدين، ويواجه مباشرة أولئك الذين اتخذوا الدينَ مهنةً، وتحولوا عن الارتزاق بخدمة الناس إلى الارتزاق بمخادعتهم وبيع الأوهام لهم.

وفي موقف آخر، يتحدث إقبال بلسان مريد ثائر على تقاليده السلوك وآداب الطريق التي تحولت، من كونها مدرسة تزكية وتطهير للقلوب إلى قهرمان ماكر تبتز فيه أحلام الضعفاء؛ ليتم بيعهم في سوق الوهم:

أنا مصباحي الذي أملكه … شمعة في قصعة من خزف

إن أقمت الليل ذابت وإذا … هبّت الريح عليـــــها تنطفي

ما الذي يفعلــــه ســــــيدنا … بالمصابيح التي حول المزار

ثمّ ما معنى مزار وضريح … وســــتور وعطور وجمـــــــار

ليس ما يعطى لهذي الأولياء.. من نذور باسمهم إلا ربـــا

المــــرابي دائمـــــــًا مختبئ … وولي القوم في القبر اختفى

يا إلهي كم لنـا من كعبة … كم لنا من صنم في الحرم

وفقاعـــــات قبـــاب فوقها … جعلتنــــــــــا ضحكـــــــة للأمم

في وقفة تأمل أمام المدارس الدينية التي يفترض أن تكون أدوات رقي ونهضة، ولكنها تحولت إلى قاعات همود وتقليد، وتحولت مناهجها التي ينتظر منها القيام والنهضة إلى مدارس، تمجد الهمود، وتتحدث عن فضل الخمول والزهد والغياب عن الحياة، إنها ليست مدرسة محمد كما عرفها إقبال!

إن الجيل لا يزال يندفع طاقة وطموحًا، ولكن هل تنهض مدارسه بطموحه هذا؟ أم أنها تعود به رمادًا بلا لهيب؟ لا ينقص شبابنا الإخلاص، لقد احترقوا من الإخلاص، نطحوا الجدار! إنما ينقصهم المنهج.. أن يكون عناؤهم في سبيل قيام الأمة، لا في سبيل همودها:

دم المسلم النور في دربــــه … ومعجزة النور في حبـهِ

ويعترف العصر أن الجمـال … نمــــــا وترعرع في قلبـهِ

ولولا مدارس هذي الشيوخ … وأحبــــار سوء ورهبانُها

لروّى المدينـــة ممــا ارتـواه … وأشرق بالحي بستانُها

كان يؤلمه أن يرى الآمال الصاعدة لجيل آمل مفعم بالعطاء والرجاء، يذهب راقصًا إلى مدارسه ومعاهده طافحًا بالأمل، ولكنه يواجه الوجوه الكالحة البائسة لجيلٍ خامل آفل، يطفئ جذوتها، ويقمع أحلامها، ويحيل لهيبها إلى رماد.

صغار الشــــواهين ما ذنبــها … هم علموها عنــاق الغبــار

هم قتلوا الحـــب في صــدرها … هم أبدلوها بهــذا الشنــــار

ترى النشأ يملأ وجه الطريق … بروحات نِسر وغدْوات بازْ

ومفتي المدينة واد ســــحيق … يتيه بمصطلحات الحجــــاز

أين هي المدارس العظيمة التي كانت تبعث الروح في طلابها، وأين اختفت ملامح التوثب التي كانت ترسمها ريشة العارفين على وجوه الجيل الناهض، أين هي مناهج بغداد وأصفهان وقرطبة وغرناطة، ولماذا لا نصوغ رحيقنا من تلك المناهل، ولماذا نكرر الموت الذي ورثناه منذ قرون؟ ألا يوجد من يحمل الجذوة الأولى، ويبعث الحنين القديم إلى روضة الإبداع؟

أنا لســــت أفهــم هذي الكـــؤوس … ويؤســفني مثـل هـذا اللجــــاج

ومن كان يحسن نحت الصخور … ترفّع عن أن يصــوغ الزجـــاج

ويسأله سائلٌ يشرب كل يوم من كأس النخبة، ويعيش في أبراجها: أليس الأولى بك يا أستاذ الحكمة والفلسفة أن تتفرغ للأكاديمية والبحث العلمي، وأن تترفع عن منازلة المسائل المتصلة بالعامة، فهي لا تليق بك أيها الفيلسوف، ولكنه يلتفت إليه في غضب، ويقول:

فإلى متى صمتي، وحولي أمــــة … يلهو بها الســـــلطان والدرويش

هذا بســـــبحته، وذاك بســــــــــيفه … وكلاهــما ممــــا نكـدّ يعيـــــــــــــشُ

إنها معاناة العارف، فهذه المدارس الفقهية التي يتخصص بها طلبة المدارس الدينية في الهند تحقق تفوقًا غير عادي في حفظ المتون، ويتخرج طلابها حفظة لكامل القرآن الكريم وكتبِ السنن المعتبرة: البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه، ولكن هؤلاء الحافظين لا يقدمون أكثر من نسخ جديدة لهذه الكتب القديمة، وهيهات أن تستطيع ثقافة الاجترار أن تأتي بجيل جديد أو نهوض جديد.

غصن العقيدة في المدارس عارِ … ومذاق أديـــــرةٍ بلا أســــــــرارِ

بالرغم من طول الطريق وعســــره … عيناك ظاعنةٌ وقلبك ســارِ

أسفًا لدينٍ ليس يكسب دولة … ولدولة وقفت كخيبر في وجــــــــهه

من أيــــن للاثنين كرّة حيــــدر … يلقي ســخافتــــها ويصلح فقـهــــــه

بات الفقيه غارقًا في جدل المصطلحات، ولم يعد في قلبه ذلك اللهيب الذي يبعث الحياة، ويوري نار العزيمة، لقد تحول إلى رماد باهت، وأصبحت دراساته حنوطًا من الرواية، يكررها ويستظهرها بلسان فارغ ما لها على القلوب من أثر ولا سلطان:

عين الفقيه من الندى محرومة … أفنت حقيقتــــــــه وراء مجـــــازه

فتشــــت في دنيـاه لم أرَ جرعــة … من ماء زمزم في رمال حجازه

يرقى المنابر خائفًا من أنــه … يرقى ليسقط بين ألف كتاب

إني لأخجــل أن أصرح أنـــه … يرقى ليضرب نفسه بحجاب

أين ذهبت تلك المدارس التي كانت تضج بها بغداد وأصفهان ودمشق وتبريز؟ أين هي تلك المدارس التي تخرج فيها طارق وعقبة؟ ومحمود الغزنوي وإياز؟ وصلاح الدين، ونور الدين؟ أين توثبهم ولهيبهم؟ ولماذا تحولت مدارسنا إلى رماد بلا لهيب، ولم يبق فيها إلا كراسات وطباشير؟

ما في مدارســك التي ترتادهـا … إلا بحــوث مغفَّـــل وبـليـــــــــــــــــــدِ

سرُّ الدراســة في فؤادك كامن … لو كنت تحسن صرخة التوحيدِ

تفيض ألسنتهم بكلمة التوحيد، ولكن قلوبهم غافية غاربة عن دلالة التوحيد في الحرية والكرامة والعزيمة، ألسنتهم رطبة بالذكر، وقلوبهم غافلة عن مقاصده، يقرؤون نصف القرآن، ونصف التوحيد، ونصف الصلاة، ونصف الذات:

مولاي مســـلمك الذي أعطيته … من شعلةِ التوحيد نصف هداه

ما زال يحمل (لا إله) مجاهدًا … فمتى ستشــرق فيــــه (إلا الله)

إنه أمرٌ رهيب أن تتأمل تلك اللحى البيضاء التي تعيش في ركام الكتب العتيقة، في المدارس الأشرفية والمحمودية والبرهانية في لاهور، وهؤلاء الرواة الغارقون في المسانيد يدهشون الدنيا بقوة حافظتهم وبديع استظهارهم، إنهم مكتبات كاملة تمشي على الأرض.

جبالُ علم وحفظ ورواية، ولكنهم لا يحملون لعناء الناس إشفاقًا، ولا يمنحونهم ترياقًا، وقد خرجوا من الدنيا وهم من أهلها، يمارسون الرواية ويعيشون في غار الأثر وغابر الخبر، ولكن أين أولئك الذين يستطيعون أن يضيئوا بنور الماضي وجهَ المستقبل، وأين أولئك الذين يسرجون بزيت النبوة مصابيح الحياة:

إنها شجاعة المعرفة إذن، من أين يمكن للمعرفة أن تتقدم؛ إذا كان المطلوب فقط هو تعظيم الآباء، أليس القرآن الكريم هو من علمنا الثورة على الآبائية والجمود، “إنا وجدنا آباءَنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون”.

يممت مدرسة الأســـــــود رأيتـُـــــها … تبكي أباطرة الزمان الذاهبِ

جارت عليها الحادثاتُ فأصبحت … مرعى لخرفـان ووكر ثعـالبِ

ما للقوافــــل.. من يقود ركابـــــها … بجوار موسى في رحاب اللهِ

من أين للعصفور ذوق نشـــيده … والجمع ســــــــــارٍ والمردد لاهِ 

أي خطوة يمكن للمعرفة أن تنجزها، حين يكون غايتها تعظيم الآباء وعبادة إنجازاتهم؟ وأي أفق لرسالة الإسلام، لو أن محمدًا اكتفى بالثناء على قصي وعبد مناف، ومنع نقدهم ومراجعاتهم؟ هل تغير العالم بالفلاسفة المدرسيين أم بغضب غاليلو وكوبرنيكوس وجوردانو برونو:

البحث يلزمه مواهب باشــق … وفؤاد ليثٍ لا يخاف جروحا

من غير معرفة وغير قراءة … يجد الشجاع طريقه مفتوحا

ويشدد إقبال على أن رسالته ليست رسالة المجتمعات المخملية الساكنة في أبراج العاج.. إنها في العمق، رسالة الدراويش أنفسهم الذين يرون الله مصدر كمال وطهر، ويفهمون الشريعة أنها مراده وأمره، ويرون أن الإسلام إنما جاء لينصفهم من المظالم والمآثم، وهو من يحقق لهم كرامتهم وسعادتهم ومساواتهم بالملوك.

يقولون إقبـــــــــالُ ماذا يريــد … ومن أين جاء بهذا السلوك

سـألت الدراويش عن سرها … وألقيتـــه في وجــــــوه الملوك     

في بيوت الله، يجد الحائر سلوة قلبه، ويجد المسكين أنس حيرته، هو كذلك مسجد محمد وكنيسة المسيح، لقد بناه عسفًا من النخل وحشوًا من أدم، أما عيسى فقد سقفه بورق التين، وكانت بيوت رحمة ومساواة وأنس. ولكن هذه المعابد اليوم تحولت إلى مبانٍ عملاقة، تعاظمت فيها القباب والمحاريب والمنارات والقداديس، وغاب عنها الله، وتزاحم فيها المصلون، وغاب عنها الإيمان.

ويل لأمة تكثر معابدها ويقلّ عبادها، وويل لأمة تزخرف فيها المحاريب وتتدابر فيها القلوب، وويل للمعابد تزدان جدرانها، وينهار إنسانها.

قوموا إلى كوني الغريق وأطلقوا … فقراءه فيهــــــــــــا على الأمراء

أيبدلون مســــــاجدي بقصــورهم … جورًا على خلقي وهم أجرائي

قولوا لحــــــــــائرهم تبــــــدل أمركم … فاســـــــــتبدلوا برْد اليقين بناره

قوموا إليهم وانفحوا من روحـنا … فيهم ولا تأســوا على أســـراره

قوموا إلى ضعفائهم وهبوا لـهم … ما يجعل العصفور يصرع بازا

وامحوا من الماضي جميع ذيوله .. لا تتركوا للجامدين مفــــــــــــازا

لم هذه الحجب التي تلهــو بهــم … وتحول بين الخلق والخلاق

لا تتركوا في الأرض سترًا مسـبلًا .. ألقـــــــاه كاهنهم على أرزاقي

ومن الكنــــائس أخرجــوا أربابـــــها … الغارقــــــــين بلجة الأوهــــــام

لله قد شــــُــــرع السجود وما سوى … هذا مؤامرة مع الأصنــــــــام

جوسوا الكنائس والمساجد لا أرى .. لكنيســة ولمســجد مصباحا

أنا غير راضٍ عن رخام أبيض … تلقى به ســــود القلوب مراحا     

وابنوا من الطين المعابدَ علّ أن … يجد السكينةَ عبدي المسكينُ

يتنافســــون بنقشــــــها وبرقشــها … والطيـــن لا يهديــــــه إلا الطينُ

(*) كلمات إقبال من ديزامه جناح جبريل، ترجمة عبد المعين الملوحي، ونظم الشاعر زهير ظاظا.

محمد حبش
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون