الهويات الكبرى القاتلة.. الاستبداد وغياب الهوية



سأسمح لنفسي باستعارة عنوان كتاب أمين معلوف (الهويات القاتلة)، لنطلّ من خلاله على أسئلة الثورة السورية، منذ بداياتها، يومَ رفَع السوريون مبكرًا في مواجهة النظام شعار: “واحد.. واحد.. الشعب السوري واحد”، مضمرين في خلفية الوعي الجمعي الذي صاغ هذا الشعار، أن نظام الديكتاتورية الفاسد غيّب الهوية السورية في البلد، حين مارس سلطته خلال 48 سنة من قانون الطوارئ، متجاهلًا مطالب الديمقراطية وتداول السلطة ومنظومة حقوق الإنسان ومبادئ المواطنة المتساوية.

يُعلِّمنا التاريخ أن الدولة البرجوازية المعاصرة شكّلت الحاضنة الطبيعية لولادة المفهوم المعاصر لكلمة (شعب)، فتلك الدولة التي تجاوزت 30 سنة من الحروب الدينية في أوروبا، والتي انتهت بمعاهدة (وستفاليا-1648)، لم تكتفِ بتحطيم العلاقات الإقطاعية القديمة، بل شكلت حاملًا لليبرالية الاقتصادية أولًا والسياسية تاليًا، واستطاعت -مسلحةً بقوة الاقتصاد الرأسمالي الصاعد- أن تفرض صيغة ديمقراطية لتبادل السلطة، في إطار فصل السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، مع ضمان حياد هذه الدولة تجاه المكونات الدينية أو العرقية أو الثقافية، من خلال تأكيد مفهوم الديمقراطية وحقوق الشعب والمواطنة التي أبرزتها نظرية “العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو.

هذا التطور لم تعرفه بلداننا، بكل أسف، إلا بصيغة مشوّهة حين قفزت من قطار الدولة العثمانية الذي توقف فجأة مع نهاية الحرب العالمية الأولى، نتيجة انتهاء الصلاحية الزمنية والتقنية؛ مخلفًا شعوب المنطقة وإقطاعها الرث تحت نير انتدابٍ أخلّ بمبدأ تعمير تلك البلدان، وعزز بكل طاقته موروثَ التخلف، ومكامن التناقض التي طورتها دول الاستقلال، عبر انقلابات عسكرية، مستعينة بكل أدوات التخلف حين تقتضي الضرورة؛ لإخضاع كامل المكونات الاجتماعية عرقية أو دينية أو ثقافية، التي تنضوي في إطارها، من أجل استمرار نهب القوة الاقتصادية في البلاد؛ إذ كان همّها الأول والأخير هو استمرارية سلطتها الديكتاتورية الفاسدة، لذلك لم تتمكن -ولم تكن معنيّة أصلًا- من تطوير هوية وطنية جامعة لكل مواطنيها.

كانت الطامة الكبرى، حين ركِبَت بعض هذه الدول حافلة الانقلابات العسكرية، ورفعت يافطة “حركة التحرر العالمية” التي تماهت مع بنية وميكانيزمات الدولة الاشتراكية التي تُعلي مبدأ الديمقراطية الاجتماعية، في مقابل الليبرالية الغربية.

الهوية تحتاج إلى شعور ضمني بالانتماء، فلا يمكن فرض الهوية بقوة الدولة الأمنية والعسكرية، وهو ما يشهد به تاريخ الإمبراطوريات الكبرى عبر التاريخ، كالإمبراطورية الرومانية أو العثمانية أو القيصرية على سبيل المثال، والتي ضمّت أقوامًا وشعوبًا شتى، لكنها لم تنجح في إلغاء هويات تلك الشعوب، أو إحساسها وإدراكها لهويتها القومية المتباينة عن الهوية المركزية للدولة الإمبراطورية. بمعنى آخر: نستطيع القول إن الاستبداد ومنطق القوة المسيطرة قد يخضع الشعوب، لكنه لا يكفي لتوليد هوية أو انتماء، خصوصًا أن الهويات تتباين بحسب الشعور بالانتماء، بين هويات صغرى وهويات كبرى، فلكل منا أكثر من هوية، تبدأ من هويته الفردية التي تميزه من الآخر، وتستمر مع هوية عائلية ينتمي إليها الفرد دون العائلات الأخرى، وهناك العديد من الهويات الأكبر قليلًا، كالانتماء إلى عشيرة أو قبيلة، أو الانتماء المناطقي إلى حي سكني أو منطقة جغرافية أوسع تشكل قرية أو مدينة أو دولة، أو الانتماءات إلى دين.. مذهبٍ في العبادة.. طائفة مذهبية محددة، وصولًا إلى الانتماء إلى نادٍ، أو جمعية، أو حزب عقائدي، أو إلى أيديولوجيا ما.

لقد صاغ “حزب البعث” في سورية أيديولوجية قومية عروبية، منذ بدايات تشكله، رافعًا شعار “أمة عربية واحدة… ذات رسالة خالدة”، محاولًا بإرادة شوفينية صهْر كل المكونات القومية الأخرى في بوتقة العروبة، حتى سمعنا وزير الإعلام السوري السابق “مهدي دخل الله” ينفي وجود مشكلة كردية، لأن دولته تكتب على بطاقة الهوية، في خانة الجنسية، لكل المواطنين “عربي سوري”! وبالتالي؛ نفى وجود الكرد أو أيًا من الأقوام الأخرى في سورية، إلا أن هذه الإجراءات الشوفينية اردت بعكس ما كان يصبو إليه، فساهمت -مع سياسات إفقار وتهميش تلك المكونات القومية- في إيقاظ وتعزيز الهويات القومية المكبوتة لديها.

ومع اعترافنا أن “البعث” هو المسؤول الأول عن تدمير الهوية السورية، من خلال نظام الديكتاتورية والفساد الذي أنشأه، والذي دمّر أي حلم بالديمقراطية وحقوق المواطنة لدى السوريين؛ فإننا ندرك أن كل الهويات الأيديولوجية الكبرى التي وسمت القرن الماضي، أي الإسلامية والماركسية والقومية، ساهمت أيضًا في وأد الهوية السورية وإضعافها في ثقافتنا العامة، إذ اشتغلت على انتماءات افتراضية إلى الأمة العربية أو الدين الإسلامي أو الأممية البروليتارية، باعتبارها أيديولوجيات عقائدية فوق أي حدود جغرافية للدولة أو الدول، وهنا يكمن تناقضها مجتمعة ومنفردة مع الهوية السورية التي يفترض بالدولة أن تعززها، عبر الكثير من الرموز والشعارات والأناشيد الوطنية، فيما نسيت تلك الأيديولوجيات، ومعها نظام البعث الديكتاتوري، واقعنا المعاش وضرورات تطويره وتدعيمه من أجل مشروع وطني لكل السوريين، وهو ما ندفع الآن ثمنه غاليًا.

قد تتضارب الهويات أو تتناقض فيما بينها؛ وهذا يدفع البعضَ إلى تأكيد هويته، في مواجهة هويات أخرى ضمن المجتمع الواحد؛ ولذلك طالب السوريون، منذ انطلاق ثورتهم، بهوية واحدة لهم، غير أن النظام استطاع وأدها سريعًا حين حرّض من داخلهم، وفي مواجهتهم على رفع الهوية الإسلامية، وأصابت الهوية الإسلامية مقتلًا أمضى في كل مآلات الثورة المغدورة، أمضى حتى من الانتصارات التي حققها النظام عبر حلفائه الإقليميين والدوليين. فالهوية الإسلامية جاءت في اللحظة الحاسمة، كنقيض لوحدة السوريين، ولتذهب بالثورة في أقانيم الأسلمة والعسكرة، وليبقى السوريون بلا هوية وطنية جامعة كانوا يحلمون بها.

توافق الإسلاميون والنظام معًا على تغييب الديمقراطية، ورفض حقوق الإنسان، وقيم المواطنة المتساوية، وأخذوا سورية في شعارات عامة ما فوق وطنية، نجحت في تخريب النسيج المجتمعي لسورية وللسوريين، وهذا ما يلقي على المعارضة الديمقراطية -إن كان لها أن تستيقظ- مهمةَ استعادةِ ألق الهوية السورية المضيّعة، عبر شعارات وهويات كبرى قاتلة.. استعادة ألق الثورة السلمية في انطلاقتها الأولى وفي شعاراتها الصحيحة.. استعادة المشروع الوطني الذي ينطلق من الإصرار على الديمقراطية ومبدأ تداول السلطة، والاعتراف بحقوق المواطنة المتساوية، طريقًا وحيدًا باتجاه سورية المستقبل، سورية لكل مواطنيها والمجموعات القومية التي عاشت فيها، لتغني نسيجها الوطني.. استعادة الدولة السورية لوظيفتها، كدولة مواطنة وقانون في بناء الهوية الوطنية لكل أبنائها، فخارج المواطنة والقانون والديمقراطية، لن نستطيع بناء هوية سورية في مواجهة الهويات القاتلة.


أنور بدر


المصدر
جيرون